نظرية المجتمع الايماني 3



نظرية المجتمع الايماني 3
المرحلة الإبراهيمية ( خلق المجتمعات الإيمانية )*

ان ولادة ( إبراهيم النبي ) في ( أور ) عند الالف الثاني ق م شكلت انعطافة مفصلية ورئيسية في منهج التخطيط العام لهداية البشرية .
ان التطور في الخطين – الفكري والانحرافي – الذين وصلتهما البشرية استلزم ضرورة توسيع رقعة المجتمع الايماني , ولم تكن مهمة ابراهيم النبي الا تحقيق ذلك , تمهيدا لمن بعده من اولي العزم , وليكون ابراهيم محور التأريخ الايماني القادم .
ملامح عامة
ان اهم التغيرات التي اعقبت نوح عليه السلام و اثّرت في مجتمعه الايماني هي الزيادة السكانية العالمية المتفجرة بصورة مطردة , وكحالة طبيعية كانت نسبة الخط الانحرافي في توسع . لذلك كان من الطبيعي والحتمي – بناءا على التخطيط الإلهي العام لهداية البشرية – ظهور شخصية مثل ابراهيم النبي بكل ما يرسم لها القرآن الكريم من ابعاد , وتفترق عن الشخصية القيادية لنوح النبي لاختلاف المهام المناطة بكل واحد منهما . ان الارث الذي خلفه المجتمع الايماني الاول – الناتج عن تربية نوح النبي – والذي جعل المجتمع العراقي مجتمعا مدركا لابعاد التوحيد , رغم التطور الانحرافي الطبيعي , ان هذا الارث الفكري والرسالي خلق شخصية رسالية جديدة ذات همة عالية جدا , و تمتلك الارضية المناسبة عقليا لمعاني توحيدية ارقى , لذلك كانت النتيجة المتوقعة :
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ }الأنعام75
وليصبح ابراهيم الممر الآمن لعبور المجتمع الايماني الجديد :
(وَعَدَ الله إبراهيم بأشياء كثيرة وعظيمة، حيث وعدهُ الله بنسل عظيم وأن كل الأمم سوف تتبارك بهذا النسل (سفر التكوين اصحاح 12:3)).
عصر إبراهيم
ان الدولتين البابلية والآشورية كانتا وليدتي الحضارة السومرية و وريثتيها , ومن هنا كانتا تحملان بعض الخصائص الباقية من رسالة نوح .
ان الحضارات كانت بصورة عامة ذات وثنية جلية , الا ان تأثير الاتصال بالسومريين , الذي وصل الى حدود الصين وشرق افريقيا , انتج حلقات اولى لتغلغل العقائد الابراهيمية لاحقا .
مهمة إبراهيم
" اذهب من أرضك، ومن عشيرتك ومن بيت أبيك الى الأرض التى أريك، فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم أسمك . وتكون بركة، وأبارك مباركيك ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض " ( تك 12 : 1 –3 ).
هكذا يصور الكتاب المقدس سبب خروج إبراهيم عن ارض آبائه ( اور ) , وما يهمنا هو ارتباط هذا الخروج بالعقيدة والدين , فهو خروج لاغراض دينية ايمانية .
نعم , كان على ابراهيم ان يصحح المسار للامم المؤمنة بعد ان دبَّ الانحراف في اوصالها , وكان عليه كذلك ان يصنع ثلة صالحة اكبر , ومن ثم وسط ايماني اوسع , وبالتالي تعظم الهالة الايمانية المحيطة , حسب التقسيم الذي اوردناه في الفصل الاول .
بعد انتشار الآشوريين شمالا , وتواجد الكنعانيين غربا , و الهكسوس في مصر , بالاضافة الى ورثة المجتمع السومري في بلاد الرافدين , توفرت لابراهيم فرصة التحرك التأريخي , لزرع بذور المجتمع الايماني الجديد , والذي كان اوسع من سابقه . فجميع هذه الاقوام تمتلك الاسس اللازمة للتأثّر الاوّلي , لان ذاكرتها نتجت عن تأثيرات المجتمع السومري الاول .
حركة إبراهيم
خرج ابراهيم من سومر و توجه شمالا نحو بلاد الآشوريين و غربا نحو كنعان ومصر وجنوبا نحو جزيرة العرب , وفعلا كانت هذه الاراضي هي مواطن الديانات التوحيدية الكبرى الثلاث لاحقا ! , فهل ذلك محض مصادفة ؟!.
تساؤل ؟
لمذا لم يتوجه ابراهيم شرقا ؟ لماذا ترك هذا التمدد الحضاري في الشرق ؟
ان ابراهيم كان يبحث عن ارض خصبة ليزرع عقائده , ولم تكن تلك الارض الخصبة الا التي نتجت عن البناء السومري الاول . فهذه الشعوب كانت هي الوحيدة القادرة على تلمس واقع ما جاء به ابراهيم .
خروج ابراهيم من اور
ان خروج ابراهيم كان ناتجا عن شيئين :
1 – مهمته الايمانية الاصلاحية التوسعية الجديدة
2 – اطمئنانه لامكانية عودة المجتمع العراقي لحظيرة الايمان في أي وقت , بسبب الارث والارتكاز العقائدي في هذا المجتمع .
الخارطة الابراهيمية
عند تحليل النصوص في بعض الكتب المقدسة وبعض الابحاث التأريخية نستطيع الخروج بقناعة مهمة , تتلخص في ان ابراهيم عليه السلام اوجد خارطة علاقات دولية جديدة , عبر ربطه المجتمعات العراقية بالكنعانية والمصرية و اقوام شبه الجزيرة العربية .
منهج الخطة الايمانية كان واضحا لدى ابراهيم
( ارسل إبراهيم خادمَهٌ إلى بلاد ما بين النهرين ليختار لابنه اسحق زوجة من لابان الذي هو من عائلة زوجته سارة ) ..
ان اختيار ابراهيم زوجة عراقية ( من قومه ) ومن عشيرة زوجته ( سارة ) , على نحو من الاصرار يكشفه الكتاب المقدس , يدل دلالة واضحة ان ابراهيم كان يسير ضمن منهج تربوي ايماني , يُريد فيه – بالاضافة الى الكفالة الصالحة لولده – ان يزيد من تواجد الثلة الصالحة في الاراضي الجديدة , وبالتالي يزداد التأثير الايماني في المنطقة , عبر مجموع المهاجرين العراقيين , الذين حملوا معهم الارتكاز الايماني للمجتمع الاول , وكذلك المستوى العقلي المناسب لمحاججة الاقوام المحيطة .
إبراهيم كان امة
ان هذه المهمة الشاقة في زيادة نسبة الثلة المؤمنة و توسيع رقعة الوسط الايماني ودفع الهالة الايمانية نحو آفاق جديدة واراضي بعيدة , عبر الهجرة الملحمية لابراهيم , لم تكن بالمهمة اليسيرة , خصوصا وانه غيّر عقائد ملوك , وزرع بذور الايمان في شعوب عديدة , و نمّا الجذوة الايمانية في نفوس اقوام كادت تنطفئ فيها .
وبذلك مهّد ابراهيم النبي لنشوء الديانات التوحيدية الكبرى .

تأثيرات الهجرة الابراهيمية
ان هجرة ابراهيم النبي هنا ليست بمعنى ( ترك ارض الآباء الى بلاد اخرى ) , بل هي تلك الهجرة المنتجة حسب وصف الاستاذ ( علي شريعتي ) . انها هجرة التغيير والبناء , كالتي قام بها نبي الاسلام ( محمد ) صلى الله عليه و آله . لذلك كان ما بعد الهجرة الابراهيمية غير الذي كان قبلها .
(( فآمنَ لَهُ لوط و قالَ إنّي مهاجر إلى ربّي )) العنكبوت 26 .
وكمثال لتأثيرات الهجرة الابراهيمية من مجموعة امثلة : تغيرت ملامح الفكر في ارض كنعان , لتصبح مستقبلا الحاضنة للمجتمع الايماني ( الاسرائيلي ) الذي خلف ابراهيم ( قبل الانحراف ) . حيث آمن ( ابيمالك ) ملك ( جرار ) , وبارك ( ابراهيم ) ( ملكي صادق ) ملك ( شاليم ) , وعقد عهدا مع ( الاموريين ) . وقد ايّد الكتاب المقدس هذا المعنى : ( وقام ابراهيم من امام ميته وكلم بني حث قائلا : *انا نزيل ومقيم عندكم . اعطوني ملك قبر عندكم . فادفن ميتي من امام وجهي* . فاجاب بنو حث ابراهيم قائلين له : * الا اسمعن يا سيدي . انت زعيم لله في وسطنا . في افضل قبورنا فادفن ميتك . فليس احد منا يرفض لك قبره لتدفن فيه ميتك * فقام ابراهيم وشكر اهل البلد .. ).
اهم انجازات ابراهيم عليه السلام
1 – توفير مجموعة اكبر من افراد الثلة المؤمنة
2 – توسيع رقعة الوسط الايماني ,
3 – دفع الهالة الايمانية لاعماق ابعد
4 – التمهيد لنشوء الديانات التوحيدية الكبرى لاحقا
5 – تحقيق نظرية المجتمع الايماني البديل
وبالتالي نجح ابراهيم في الامتحان الإلهي الذي دخله , وصار اساسا لكل ما جاء بعده , وقبل ذلك كله وصل الى مراتب توحيدية عالية ذاتيا :
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }البقرة124
اذن فابراهيم عليه السلام ترك مجتمعا ايمانيا , تمثّل في بني اسرائيل , وهم ابناء إسحاق النبي بالاضافة الى من رافق ابراهيم النبي من المؤمنين , وزرع نواةً ايمانية في شبه الجزيرة العربية تمثلت في ولده اسماعيل النبي وزوجة ابراهيم المؤمنة هاجر .
.............
           ملخص للفصل الثالث من كتابي قيد التأليف .
           علي الابراهيمي
           A1980a24@gmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموسوعة المعلوماتية عن مدينة الناصرية .. مهد الحضارة ومنطلق الابداع

عين سورون ( عين الرب )

تداخل العوالم .. بين الادلة و النظريات