السوط البكتيري وقَبْليات العلم الإلحادية

السوط البكتيري وقَبْليات العلم الإلحادية



التعقيدات غير القابلة للاختزال هي تلك الأعضاء في جسم الكائن الحي التي إن فُقدَ جزء منها لن تتمكن من العمل مطلقاً ، وبالتالي هي امّا أنْ تكون وُجدت كما هي وامّا لن توجد مطلقاً . وهي احدى حقائق نظرية التصميم الذكي - التي ترى انّ هناك تركيبات حية دقيقة وهندسية لا يُحتمل تشكّلها بالصدفة او الانتخاب الطبيعي غير العاقل - والتي استشهد بها البروفيسور ( مايكل بيهي = استاذ الكيمياء الحيوية ) في إطار قضية مدرسة دوفر في المحكمة الفيدرالية في ولاية بنسلفانيا الامريكية في سبتمبر ٢٠٠٥ ، والتي قررت أنْ تمنع تدريس هذه النظرية كبديل علمي عن نظرية التطور لداروين - التي تفترض ان الكائنات الحية جاءت عن سلف بدائي مشترك بالصدفة وبطريقة عشوائية - والمفروضة بقوة القانون العلماني المتشدد في الولايات المتحدة .
قد يعتقد البعض ان المبدأ الدستوري الامريكي القاضي بفصل الدولة عن الكنيسة هو الذي يمنع من تدريس نظريات تنتهي الى وجود مصمم ذكي للكون ، لكنّ الحقيقة انّ القَبْليات الدينية هي الحاكمة على القوانين الأكاديمية والمنهجية البحثية في الغرب عموماً ، باعتبار ان القائمين على المؤسسات الكبرى هناك يميلون اعتقادياً لنفي وجود الاله ، فالإلحاد دين ، حيث هو يؤمن بالنفي ، فيما هناك من يؤمن بالوجود الالهي . انّ نفي الاله ليس مناسباً للعلم التجريبي ، لأنه سيكون ملزماً قبل النطق بمثل هذا الحكم الجازم ان يدرس مختبرياً كل ذرة وجسيم في الكون ، ثم ينتقل لدراسة ما وراء هذا الكون - حسب نظرية الأكوان المتوازية والعوالم البُعدية - ويتأكد بانه ما ترك جسماً في كل العوالم او عالماً من هذه العوالم الّا ودرس حقيقته ، ليكون قادراً على نفي وجود الاله ، لذلك لا يجوز استخدام العلم كاداة لنشر الإلحاد مطلقاً . فيما ان وجود بضعة تصاميم ذكية غير قابلة لاحتمالات العشوائية في الكون كافية للاعتقاد بوجود مصمم ذكي - خالق - وفق المنطق العقلي . لذلك فمنع تدريس نظريات تنتهي الى مثل هذا المصمم نشر لدين الإلحاد لا العلم .
مع ظهور الدارونية اعتقد البعض ان الصدفة يمكن ان تكون مصدراً للنظام الكوني بدلاً عن الإرادة الخالقة ، وتزامناً مع هذه التحولات ظهرت فلسفة أوغست كونت ١٧٩٨ - ١٨٥٧ م التي تناوئ الميتافيزيقيا ، وقد أدى مجموعة تلك العوامل اضافة الى المنجزات العلمية في النطاق العملي الى صيرورة العلم ذاته نوعاً من الديانة . وكرّست المغالاة في العلم Scientism الفكرة التي تقرر ان العلم قادر ان يقدم تفسيرات على لكل الأشياء والحوادث والبنى طبقاً لما يحدده من قوانين ، دونما حاجة الى تدخل الى الاله .
ان رجال العلم لم يكونوا دائماً علميين ، او لنقل انهم كانوا غير منصفين فيما يكتبون ، فظهرت مجموعة من الكتب في القرن التاسع عشر تدعو عملياً لمعاداة الدين من خلال اعتباره عدواً للعلم ، ككتب الدكتور دريبر استاذ الطب في جامعة نيويورك والأستاذ وايت الرئيس الاول لجامعة كورنيل وكتاب اخر في مطلع القرن العشرين لسيمبسون ، وهذه الكتب اليوم مثار للجدل في طريقة كتابتها لتاريخ العلم . والمؤاخذة الاساسية التي سجلت على أعمالهم هي انهم اعتمدوا منهجاً انتقائياً فأولوا أهمية كبيرة لافكار غاليليو وداروين متجاهلين دور الدين في ترويج العلوم في الغرب ، فجامعة هارفرد مثلاً بدأت كمعهد مسيحي وظلت هيئتها العلمية طيلة قرن كامل تتألف من القساوسة فقط ، ومن بين أربعين الف خريج عام ١٨٥٥  بامريكا ظهر اكثر من عشرة آلاف قس . انّ من المؤكد عدم خلو أية نظرية علمية من قَبْلية ميتافيزيقية ، بالمعنى الذي يورده ابو الأعلى المودودي من ان الحقائق الطبيعية مجردة وواحدة لكنّ التفسيرات والتركيبات والتوظيفات البشرية هي المتعددة حيالها ، لذلك نجد فلسفة تقود العلم في روسيا سابقاً بما يتوافق مع العقيدة الشيوعية ، فيما تزيح الفلسفة المادية الغربية ( الله ) عن الساحة العلمية ( ١ ) .
ولم يكن ما عرضه البروفيسور بيهي - والذي نتناوله تالياً - هو الاول من نوعه في الساحة العلمية ، فهذا المتخصص في المنطق الرياضي ( كورت غودل ) يقول : ( انني لا اعتقد ان الدماغ الإنساني قد تكوّن بطريقة داروينية ، وان ذلك في الواقع أمر قابل للرفض ... وتمثل الطاقة الحياتية عنصراً أولياً في تشكيل الكون وهي تتبع بعض قوانين الفعل ورد الفعل ، وهذه ليست بالقوانين الساذجة ) .
استعرض مايكل بيهي المحرك المبهر لأحد انواع الكائنات البدائية - البكتريا - الذي يتحكم بسوطها ، وهو المعروض في الصورة المرفقة ، والذي لا يمكن للمنطق العقلي قبول انه جاء وفق آلية عشوائية - كما تفترض نظرية التطور - من خلال الانتخاب الطبيعي ، فهو محرك ذو هندسة راقية يمتنع عن العمل في حالة افتقاده لأحد أجزائه ، بمعنى انه لابد ان يكون هكذا منذ كان .


لكنّ المعارضين لنظرية التصميم الذكي والمناصرين لفكرة داروين العشوائية جائوا باعتراض غريب جداً جداً ، حين استخدموا ( محقنة السموم البروتينية ) لبكتريا ( يرسينيا بيتس ) المشابهة لتصميم ( محرك السوط الحركي ) للبكتريا التي استشهد بها البروفيسور بيهي للقول بأنّ هذا العضو لازال يعمل رغم انه يفتقد الى بعض الأجزاء الإضافية التي يتمتع بها ( محرك السوط ) ! .



انّ هذا التلاعب المتعمد بالقضية العلمية امر يدعو للغرابة والتساؤل عن حقيقة الأهداف الكامنة وراء وجود هذه المؤسسات القائمة باسم العلم ، فإنّ وجود عضوين متشابهين من حيث أسس التصميم مع اختلاف وظيفتيهما دليل تصميم ذكي لا العكس ، حيث انّ قول هؤلاء الداروينيين أشبه بالذي يستدل بمحرك انتاج الكهرباء المنزلية لإثبات ان محرك السيارة ليس من تصميم الانسان ، باعتبار افتقاد المحرك المنزلي لأجزاء إضافية يتضمنها محرك السيارة لكنّه لازال يعمل ، فيما انّ كليهما يشيران بوضوح الى يد وعقل المصمم الذكي .





___________

١ -  الدكتور مهدي گلشني ( من العلم العلماني الى العلم الديني )


علي الابراهيمي

a1980a24@gmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموسوعة المعلوماتية عن مدينة الناصرية .. مهد الحضارة ومنطلق الابداع

عين سورون ( عين الرب )

تداخل العوالم .. بين الادلة و النظريات