قصة المصادر الموثوقة و غير الموثوقة


قصة المصادر الموثوقة و غير الموثوقة



المادة العلمية – بنظري – هي  كل حقيقة , يكتشفها الانسان , او يصفها , او يتوصل الى سبيل الاستفادة منها , باي شكل من اشكال الاستفادة العقلية او العملية , عبر مجموعة من طرق المعرفة الخاضعة للميزان العقلي السليم , والمدعومة بالادلة والبراهين المناسبة لمقام تلك الحقيقة .
لكن محور الموضوع – بعد هذه المقدمة الوجيزة – هو النزعة الجديدة في تقسيم مصادر المعرفة الى مصادر اولية وثانوية وثالثية وهكذا , واشتراط ان تكون المصادر نابعة عن مؤسسات عالمية محددة ومشخصة , وهي عموما غربية . و هي صرعة جديدة من صرعات الموضة الثقافية المستوردة , والتي تعودنا على نزولها الى السوق الثقافي بين فترة واخرى , بل صارت معتادة ومنظمة بتفاوت زمني لبعض سنين معدودة . وبالتأكيد ان لكل صرعة جديدة اتباع ومقلدون ومهووسون , ولله في خلقه شؤون .
من هنا ساتناول هذه الصرعة الجديدة , كبرى وصغرى , بمعنى حقيقة اخضاع مصادر المعرفة لمؤسسات محددة , والصغرى واقع المؤسسات العلمية الغربية .
ان الانسانية عبر عمرها الطويل , الممتد لآلاف السنين , انتجت الكثير من الانجازات والابداعات العقلية والعملية , لعل اشهرها الكتابة والعجلة والمنطق والفلسفة والقوانين والبطارية الكهربائية والاسطرلاب والعدسة المكبرة والتعدين والعجائب المشيدة بيد الانسان او المحورة عن وجود طبيعي , وهي في كل ذلك لم تكن تخضع الا الى ارادة وقناعة المبدعين , من ابناء الشعوب التي اهتمت بتطوير قدراتها , ولاشك ان هذه الشعوب متنوعة , وان اكاديمياتها العلمية هي الاخرى مختلفة . فهل يستطيع احد من الناس ان يدعي – اليوم – ان هذه الابداعات لم تكن علما , او ان يطالب باعادة تقييمها عبر المؤسسات الغربية الحالية ! , لن يعدو ذلك محض السخرية من النفس , لماذا ؟ , الجواب هو ان تلك الابداعات تناسب زمانها وبيئتها , بل لعل بعضها تجاوز مرحلته المعرفية . من هنا يظل من الواجب ادراج تلك المعارف ضمن مصطلح العلم , خصوصا ان عموم تلك المرحلة العلمية السابقة كانت الام لما يمتلكه عالم اليوم من محصلة .
ثم ان هناك ابداعات تفتقر في كل زمان الى تغطية اعلامية , فضلا عن الرعاية المؤسساتية العالمية , فهل نخرج تلك الابداعات عن دائرة العلوم , لان الغرب لم يروج لها , لسبب او لآخر ! . ان الكثير من مهندسينا وفنيينا يبدعون في مواقف مختلفة ابتكارات لاجهزة او مكائن او مواد كيميائية او حقائق فيزيائية , انتاجا او تعديلا , لم تحظَ الكثير منها بملاحظة الحكومات المحلية , وبالتالي نتجاوز عن الدولية , لكنها ابداعات افادت وغيّرت عمل الكثير من المؤسسات .
كذلك تفرز الجامعات المحلية بين الحين والآخر ابحاثا نظرية وعملية , يُشار اليها بالبنان , لكنها تظل ضمن دائرة الفقر الاعلامي او الروتيني , ويشاء الله لبعضها ان يرى النور , فهل يجوز ان نلغيها من دائرة المصادر الرصينة , لان بعض الماسكين لاسباب المال في العالم لم يولوها اهمية ؟!
لنفترض ان بعض اصحاب حرف الصيانة الّف كتابا حول بعض المكائن والاجهزة , والتي خبرها عمليا , دون ان يمتلك شهادة اكاديمية , هل يمكن ان نرمي كتابه هذا الى سلة القمامة ؟ , سيكون الامر عندئذ اشبه بالجريمة والهدر للطاقات العلمية .
ثم ما الذي يجعلنا نثق بمجموعة من الرجال نظمتهم مؤسسة تمتلك القدرة على الظهور , ونترك رجالا آخرين , لم يتم تنظيم عملهم على شكل مجموعي او مؤسساتي , او تم لهم الانتظام ضمن مؤسسة اقل قدرة على الظهور , بينما يمتلك الطرفان الادلة اللازمة على قبول انتاجهم .
اما بالنسبة لواقع المؤسسات العلمية الغربية , فنحن نحترم عطاء الكثير منها وجهودها في خدمة الانسانية , لكن ذلك لا يُخرج اغلبها عن مجموعة من الاشكالات الجوهرية . فاغلب المؤسسات العلمية الكبرى , كمراكز الابحاث والجامعات والمجلات العلمية , خاضعة لتمويل عوائل ثرية , ذات تأريخ اقل ما يقال فيه انه مثير للجدل , كعائلتي روتشيلد و روكفلر  , فالعائلة الاولى هي ابرز وجوه دعم الماسونية العالمية , والعائلة الثانية لازالت تحمل لقب احفاد اللص , ومن اهم الجامعات التي تحظى بدعم العائلتين هي جامعة هارفارد العملاقة , ومجموعة من مراكز الابحاث في الولايات المتحدة .
لذلك لايمكن ان اقتنع كليا ان هذه المؤسسات بعيدة عن آيدلوجيا تلك العوائل , عن طريق المال , سيما عند حدوث ضائقة كبيرة . بل انني لايمكن ان اتصور ان العوائل التي صنعت الحروب وادواتها , واستفادت من المنتصر والمنهزم , وتطورت ماليا عبر الخداع , ان يصحو افرادها فجأة ليجدوا انفسهم ملائكة يخدمون دون مقابل !! .
انني كلما اردت ان ابالغ في احترامي للمؤسسات العلمية الغربية , يطرأ على ذهني فكرة قبول الكثير من هذه المؤسسات لتلك النظرية التافهة والمتهافتة , المسماة بنظرية التطور لداروين , فرغم ان هذه النظرية لم تنجح امام ادلة علم المتحجرات , وكذلك فشل قانونها الرئيسي للانتخاب الطبيعي امام حقائق الموجودات , وعدم قدرتها على تفسير نشوء الخلية الحية الاولى , الا ان الكثير من المؤسسات العلمية الغربية تبنتها لمدة طويلة , وتم ادخالها في مناهج التدريس , بل وزرعها كثقافة عالمية , كانت اهم آلياتها مع السينما هي المؤسسات العلمية . رغم ان الكثير من مهووسي الصرعات الجديدة بدأ يتنازل عن الكثير من امثال تلك النظريات بداعي سقوطها علميا , لكن ذلك لا يمنع انه تعصب لها فترة طويلة , وصار متأثرا بصرعات جديدة تبثها ذات المؤسسات .
كما ان الكثير من هذه المؤسسات ( الرصينة ) تخضع بشكل كبير لمبدأ المجاملة والعلاقات , ولذلك يعاني الكثير من باحثينا العرب من قضية المجهولية , وعدم معرفة تلك المؤسسات لهم , بل واهمالهم لفترات طويلة , لان المؤسسات احيانا تكون منشغلة ببحث لشخصية مشهورة .
ان العالم يسير باتجاه يخالف توجه اصحاب هذه الصرعة غير المنطقية , وينحى باتجاه الاستقلالية العلمية , حيث يجد كل باحث شخصيته , بعيدا عن تأثير الهالات , التي تم زرعها سابقا ضمن ثقافة الكثير من الشعوب , لاخضاعها للغة ( السيد ) و ( العرق المتفوق ) . فالاكاديميات المختلفة تنتج وتعطي لخدمة اوطانها , ضمن سلسة من الابحاث المعتمدة على الذات , والتي يرفد احدها الآخر . فليست المادة العلمية حكرا على مكان او زمان , بل هي ابنة البحث والمثابرة والدليل .
ان كل مادة علمية تتدرج في نفعها وجديتها بمقدار ادلتها وقوة براهينها , وبالتالي لا يتعلق الامر حين نريد الاستفادة من مصدر ما بجهة تبنيه , لكنه يعتمد على ما فيه من نفع نظري او عملي , لا يخرج عن نطاق العقل والحجة , ولايتعارض مع مصدر آخر اقوى في الدليل .

...

علي الابراهيمي
3 \ 2012

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموسوعة المعلوماتية عن مدينة الناصرية .. مهد الحضارة ومنطلق الابداع

عين سورون ( عين الرب )

تداخل العوالم .. بين الادلة و النظريات