الخطاب الاسلامي الراهن .. بين المنبر والسياسة

الخطاب الاسلامي الراهن .. بين المنبر والسياسة





علي الابراهيمي



A1980a24@yahoo.com





الاسلام خاتم الاديان والشريعة التي ارتضاها الخالق لخلقه , سبيلا نحو بلوغ ارادته . والمسلمون هم حملة رسالة تبليغ وتطبيق هذه الشريعة . وبعد وفاة الخاتم صلى الله عليه وآله جرى ما جرى من الاحداث والوقائع , وذهب كلٌ بما يراه الطريق الى النهاية المحمودة . فكان ان انقسمت الامة سياسيا الى مذهبين رئيسيين – الشيعة والسنة - , وفقهيا الى اكثر من ذلك بكثير , وتوالت الاحداث , وغزا هذه البلدان غير اهلها , وصارت بعد وضوح ثرواتها مطمع الطامعين ومقصد الكثيرين . وكان السبيل الى السيطرة عليها هو سحق عقيدتها وتفريق وحدتها , بالتشويش الفكري والتجهيل المتعمد وسلب الارادة من ابنائها , و دفعها نحو الصراع والشقاق , وتسليط الظالم الفاسد , بالمكر والغدر , لتنتشر سلوكيات مريضة فيها , ويدب بين اوصالها الضعف والخوف والتشتت .

اليوم , وبعد ان ولد في هذه الامة رجال قلوبهم كزبر الحديد , يحملون هموم الاصلاح والتغيير والنهوض , صارت الامة تعي واقعها , وتدرك مصيبتها , وتفكر في الخروج من يد التبعية , والانعتاق من الاستعباد .

وبفضل هذه الحركة , والتي استندت الى حركية الاسلام ذاته , اضحى الاسلام ينتشر بمستويات ارعبت معاديه , وقلبت موازين القوى , وغيرت الكثير من المعادلات والحسابات . ان الاسلام متحرك بسمو مبادئه ورقي طرحه وشريعته , حتى ولو خذله الكثير من ابنائه , وهذا ما زاد الخوف لدى مخالفيه .

رغم كل هذا , لازال انتشار وتطبيق الاسلام يشكو من سلبيات واقع ابناء امة الاسلام , سواءا العامة او النخبة منهم . ولعل ابرز المشاكل التي تواجه نهوض هذه الامة المرحومة هي واقع ( الخطاب النخبوي للقيادات الدينية والسياسية الاسلامية ) . وهو ما احببت تسليط الضوء عليه , رغم وجود مشاكل اخرى لا تقل عنه اهمية , الا انه منبع الكثير منها , بل هو الجسر الذي تعبر عليه كل اسباب التردي والانحدار .

يقول ( طه جابر العلواني ) في ( ازمة الخطاب الاسلامي المعاصر ) : (ما اتفقت كلمة مثقفي الأمة في عصرنا على شيء مثل اتفاقها على أن الأمّة الإسلامية في سائر شعوبها، وفي مقدمتها الشعب العربي، تعيش أزمة فكرية، تتجلى في شكل غياب ثقافي، وتخلف علمي، وكسوف حضاري، وتتجسد في عجز الخطاب الفكري المعاصر عن إيصال مضمون الخطاب الإسلامي السليم ومحتواه، قرآناً وسنة وشريعة وأخلاقاً، وإن اختلفوا في تحديد الأسباب ووسائل العلاج ).

والمقصود بالخطاب الاسلامي هو المعنى الذي حمله الدكتور ( علي رمضان الاوسي ) في (ثقافة التقريب في الخطاب الديني المعاصر والعلاقة بالآخر ) : (الخطاب الديني المعاصر: ونقصد به كل حديث مقروء أو مسموع أو مرئي فهو يشكل لوناً من ألوان الخطاب للآخر فالخطاب الديني ونقصد به الخطاب الإسلامي لا يتوقف على كتاب أو كلام فحسب وإنما يتعداه ليشمل كل الوان الخطاب الذي يمارسه المسلمون بعلمائهم ومؤسساتهم ومؤلفيهم وهكذا المسلمون القادرون على ذلك الأداء، وغاية هذا الخطاب هو إيصال مضامينه وأفكاره إلى الآخر ). وكذلك ما وصفه ( احمد كمال ابو المجد ) في ( حول الخطاب الديني المعاصر ) : (أما الخطاب الدينى الذى نتحدث عنه وحده فى هذه السطور، فهو خطاب الدعاة والوعاظ والخطباء والمفتين والباحثين حين يقدم إلى جمهور الناس على أنه الوصف السليم والفهم الصحيح للإسلام فى عقيدته ونظامه الأخلاقى وآدابه وشريعته.

ولهذا الخطاب الدينى ـ بتعريفه هذا ـ دور أساسى فى تكوين "العقل المسلم" و"الوجدان المسلم"، ومنه يتلقى عامة الناس تصورهم للإسلام، وللعالم فى ظله.. وتزداد أهمية ترشيد هذا الخطاب فى ظل أمرين تكاد تشترك فيهما جميع البلاد الإسلامية.. أولهما انتشار الأمية بمعناها العام، والأمية الدينية بوجه خاص.. وهو ما يحول دون الاتصال بمصادر المعرفة الدينية الصحيحة، من المراجع المعتمدة فى التفسير وفى علوم الحديث والسيرة والفقه.. وما يجعل الخطاب الدينى بمعناه الذى بيناه المصدر الأساسى إن لم يكن الوحيد للمعرفة الدينية.. والمسئول الأول عن تحديد معالم "التدين" ورسم صورة "المتدينين" لدى الأفراد ولدى الجماعة، ولدى الغير.. ثانيهما: تعاظم موجة التدين احتجاجًا على المادية التى آل إليها أمر الحضارات المعاصرة.. وما صاحبها من تراجع فى "نوع" العلاقات الإنسانية السائدة، وفسادٍ لذات البين داخل الجماعة الواحدة، وداخل المجتمع الدولى كله، وهو التراجع المسئول ـ مع أسباب أخرى ـ عن انتشار ظواهر الأنانية والانحصار على الذات، وظواهر العنف الفردى والجماعي، الذى يتخذ أشكالاً متعددة باختلاف ميادينه، بدءًا بالعنف الفردى والحكومي، وانتهاء بالإرهاب الداخلى والدولي، ووصولاً إلى الحروب الأهلية والإقليمية والدولية. وتعبر موجة التدين ـ بالإضافة إلى معنى الاحتجاج ـ عن حرص جديد على الاتصال بالجذور والأصول الاعتقادية والثقافية والسلوكية التى تصنع "الهوية" وتؤكد معنى "الخصوصية" الثقافية، وتيسر الانتماء الواضح لثقافة محددة وأمة معينة. والتدين حين يرتبط بأصوله الاعتقادية والسلوكية وحين يفهمها الفهم السليم ويضعها موضعها الصحيح.. ظاهرة جديرة بالاحتفال والتشجيع، فهو مصدر هداية للفرد، وانضباط للجماعة، يغرى بالصلاح والإصلاح، ويعصم من الفساد والإفساد.. ويؤدى ـ فى نهاية الأمر ـ إلى الارتفاع بمستوى العلاقات الإنسانية بين أفراد الجماعة، وبين الجماعات المختلفة داخل النظام الدولى.. وهذا الارتفاع هو الذى ييسر التعاون، ويوظف التنوع الإنساني، ويعين على احترام حقوق الأفراد والجماعات، ويفتح الباب أمام السلام الاجتماعي، والسلام الدولى.. أما حين ينحرف التدين عن أصوله، وحين ينفصل ـ ولو بالنيات الحسنة ـ عن إطاره المرجعي، فإنه يصير تديناً مغلوطاً، يفضى إلى حالات فكرية ووجدانية فردية وجماعية بعـيدة الصلة بالصورة التى سعى "الدين" إلى بنائها وإقامتها فى الفرد وفى الجماعة على السواء.. والدين ـ من قبل ومن بعد ـ دعوة ونداء وخطاب، تتحقق غاياته فى الناس بقدر ما يستجيبون الاستجابة الصحيحة لهذه الدعوة وذلك النداء: "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتا" ( النساء – 66) ).

عند تقريب العدسة نحو الواقع الاعلامي الاسلامي خلال فترة الاعوام القليلة الماضية والحالية , سوف نرى بوضوح تخندق اعلامي طائفي واضح , وصراع كلامي شرس , فقد في الكثير من الاحيان ادب الحوار وفقه المناظرة , ولجأ الكثير من رواده الى استخدام اقسى الاساليب واكثرها تجريحا . والقانون الطبيعي يقول : ان لكل فعل ردة فعل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه , الا ان المصيبة التي ابتلت بها الامة مؤخرا هي ردات الفعل المعاكسة في الاتجاه ولكن غير المتساوية في القوة , فتولدت سلسلة من المعارك الاعلامية الدامية , والمولدة لجبهات قائمة على العداوة والاستعداء .

وفي حين كان الاعلام النخبوي فيما مضى يقتصر على المؤلفات العقائدية والفكرية والسياسية وبعض الكتابات الصحفية , بعيدا عن ضجيج وعاطفة القواعد العامية , اصبح اليوم الاعلام مستعرا عبر شبكة ضخمة من القنوات الفضائية والمواقع الالكترونية المتجابهة , و صار النقاش والجدال والاحتجاج العقائدي والفكري والسياسي في متناول الواعي وغير الواعي , المتخصص وغير المتخصص , العالم والجاهل , ... الخ , وبالتالي خضع لعاطفة العامة وتأثيرات الانتمائية الجمعية – المشابهة للعصبية القبلية - , وهو ما وفر فرصة ذهبية لاعداء الاسلام ومهد الارضية لادخال آليات جديدة في الصراع , ونمت فجأة ماكنة اعلامية ضخمة , تحاكي عاطفة العوام , يملكها افراد معدودون , ذوو ثروات خيالية , وارتباطاتهم كانت على الدوام مشبوهة . كما نمت ايضا في جبهات مختلفة ماكنات اعلامية اخرى تعتمد منهجا مشابها , لكنه متعارض في طرحه , بتأثير القواعد على النخبة , كردّات فعل سلبية تجاه طرح المخالف , وانتصارا لاسلامهم الذي يعتقدونه . في لقاء للشيخ ( خالد الملا ) بوكالة انباء التقريب , وفي معرض حديثه عن امكانية نشوب حرب طائفية في العراق , يقول : (ونقول في نفس الوقت أن هناك وعي لدى الشعب العراقي ولكن هذا الوعي يتناقص ما دامت القنوات الاعلامية تحاول اشعال فتن طائفية بين العراقيين ) .

من هنا كان لزاما تشخيص دور المنبرين – الديني والسياسي – في النهوض بالامة , ورفعها الى المكانة التي اعطاها الاسلام لها .

الامة الاسلامية – اليوم – تشهد حضورا واضحا للنظريات الاسلامية – العقائدية والسياسية - , وكان واضحا اعتزاز ابنائها باسلامهم , والشعارات التي اعتمدتها الشعوب الاسلامية في دول الربيع العربي كانت تشير بوضوح الى ان الاسلام هو العمود الفقري في تحركها الثوري التغييري . لذلك لم تعد المشكلة في تقبّل الاسلام كمنهج يقود الحياة , بل ان المشكلة هي في نوع ذلك الاسلام المُتَبَنّى من قبل كل جماعة , هل هو في صالح الجسد الاسلامي الواحد الكلي ؟ ام هو ثغرة جديدة تستغلها قوى معادية لهذا الدين واهله , كما هو الحال في ( سوريا ) مثلا , فالشعارات المتبناة من القائمين على التغيير في سوريا لا يحتاج المتابع بذل الجهد في ادراك انها اخطر من بقاء النظام السوري ذاته , بل ان بعضها سائر كليا ضمن مشروع الاعداء التقليديين للامة الاسلامية !.

ان اهم مشكلتين نستطيع تلمسهما من واقع الخطاب الاسلامي الراهن هما :

1 – التخندق الطائفي والمجابهة الخالية من ادب الحوار .

2 – الانهزامية التي تطفو على سطح الخطاب النخبوي السياسي الاسلامي امام المؤسسات غير الاسلامية الكبرى .

الثورة الاعلامية الكبرى اليوم , وتواجد هذا الحشد الضخم من القنوات الفضائية وآليات الاعلام الالكتروني , التي تتواجد في ابسط البيوت , صنعت ثورة من التشويش الفوضوي الذي غيّب العقل المسلم عن ادراك جوهر الصراع في العالم . الجميع يحسب انه يحسن صنعا ! , لكنه في الواقع – وبالاتجاهين الشيعي والسني – يحدث ازمة , تنتج الفرقة .

لو رجعنا قليلا الى الوراء , وقرأنا لعلي شريعتي او سيد قطب او مالك بن نبي او مرتضى مطهري او محمد باقر الصدر او محمد عبده او عبد الحسين شرف الدين او غيرهم الكثير , سوف نجد بوضوح ان الخطاب كان مختلفا , كان علميا , كان اخويا , كان منهجيا , كان باحثا عن حقيقة , لكنه افتقر الى التفعيل والتزول به الى العوام وتثقيفهم به . يقول الشيخ خالد الملا ( في نفس اللقاء السابق ) : (أنا عندي أهم عامل ينبغي تفعيله هو المنبر الاسلامي بشكل عام سواء كان جريدة أو مجلة أو انترنت أو تلفزيون أو اذاعة وأيضا منابر المساجد والحسينيات، كما أن الجانب التربوي الذي يتمثل بالمدارس والجامعات والبيت فانها تلعب دورا مهما، وهذه مهمة تلازمية لا يتحملها شخص واحد، اذ لا ينبغي أن ينجر المثقف أو المعلم أو الاستاذ الجامعي وراء نشر الفكر الطائفي البغيض.ومن المهم جدا اقامة حصة دراسية في الوحدة الاسلامية فلربما يعي المثقف ما معنى الخلاف المذهبي ولكن الطالب المدرسي أو الجامعي يتصور أن الخلاف الطائفي هو يعني التقاتل من هنا ينبغي اثارة قضية التقريب في المراكز التربوية ) .

وذكر الدكتور علي الاوسي بعض النقاط التي تدخل ضمن بحثنا , والتي تسببت في خلق اجواء العداء الداخلي , والمنتجة لحالة من الضعف والانهزامية امام العدو الخارجي : (تعاظم الهجمة الثقافية والإعلامية الغربية ضد المجتمع الإسلامي , خلق عداوات وهمية في أوساط الأمة الإسلامية , استغلال القيم الإنسانية و تحريف المفاهيم , فتح المجال أمام الفتاوى اللامسؤولة , إيجاد الأرضية المناسبة للتكفيريين و ظاهرة التكفير , كثرة التمسك بحوادث التاريخ غير الدقيقة , جعل التطرف و الجمود و المتطرفين هم الواجهة للعالم الإسلامي , عدم تربية الكوادر الإسلامية المناسبة لمرحلة الحاضر , ضعف الإعلام الإسلامي في تبيين أولويات الدين , ضعف التواصل فيما بين الجاليات الإسلامية في الغرب و العالم الإسلامي ) .

ولو اخذنا المنابر الدينية لدى مختلف الطوائف , والتي تبثها مجموع القنوات الفضائية على مدار الساعة , لشاهدنا كما هائلا من كلمات التنقيص والازدراء والتهكم والتوهين , تجاه الآخر المخالف . ولعل ابرز مدرستين في هذا التوجه هما ( السلفية ) و ما اسميه ( صنمية الشيعة ) او من سماهم علي شريعتي ( اصحاب التشيع الصفوي ) حسب تعبيره . فكلاهما لم يدركا الى اليوم حقيقة الحاجة الاسلامية , او من هو العدو الحقيقي المشترك , واعتمدا على منهج ( الابادة الفكرية ) , رغم انهما ( اضعف الحلقات الفكرية الاسلامية ) في الواقع ! . ولازالا تصارعان في ساحة يمكن تسميتها ( ساحة الفكر الطفولي ) , الخالية من الفهم الواقعي , هذا اذا غضضنا النظر عن وجود محرك خارجي لدائرة الصراع , ويد خفية , او حتى علنية .

ان الطرفين لم يساهما في تأجيج الصراع الطائفي فقط , بل كانا سببا في تشويش الفكر الاسلامي عموما , حتى على الباحثين , الذين اصبحوا في احيان كثيرة ينطلقون في كتاباتهم وابحاثهم تحت تأثير الاجواء الطائفية السلبية . عندما قرأت مرة لكاتب اسمه ( محمد العواودة ) موضوعا بعنوان (تحولات الخطاب الشيعي في العصر الصفوي ) , يتناول فيه تطور الافكار والمعتقدات الشيعية بناءا على كتاب وضعه كاتب انكليزي اسمه (كولن تيرنر ) , رأيته – مع الاسف – بعيدا كل البعد عن استيعاب وادراك مسيرة التشيع في معتقداته واعلامه ومسانيده . ففي احدى عبارات الكاتب يقول : (في ظل هذا التطور، وفي العقود الأخيرة للعصر الصفوي، برز الشيخ محمد باقر المجلسي، الذي يعتبره المؤلف اكبر شخصية ساهمت في صوغ النظرية الامامية الصفوية وفلسفتها، حيث خطت مركزية "الإمام" في الوعي الشيعي أوسع خطاها تحت رعاية المجلسي، الذي كان أبهر إنجازاته: جمعه الأحاديث المتفرقة للأئمة، ما مكن في إيصال العقائد الأساسية للتشيع الاثني عشري إلى عموم الناس، ومن خلال تعمده أن تكون معظم كتاباته بالفارسية، حيث استطاع استبطان الإيمان النامي وتدبره بشخوص الأئمة، وليس بحقائق الوحي، ... )

ويستمر الكاتب في طرح عجيب ( ... وحيث عمل على رفض جميع الآراء الأخرى من أن تدخل في الوعي الشيعي، التي كان يتم قمعها بالقوة غالبا، بعد أن بشر بأن الإيمان ناقص دون الاعتقاد بالأئمة، وان العلم الشرعي مقصور على معرفة أحاديثهم، ومعرفة الأوامر المروية عنهم، الهادفة إلى تنظيم جميع نواحي حياة المواطن الامامي. وفي سياق عمله على ترسيخ فكرة "الغيبة" وفكرة "المهدي" وفق الأحاديث التي يعرضها المجلسي في "بحار الأنوار" فان زمن الغيبة هو عصر ابتداء كبير للشيعة الامامية، الذي لن ينهيه إلا ظهور المهدي ورجعة الائمة الأحد عشر الآخرين. ففي حال الغيبة فإن كل الحكام غاصبون بالاصالة، وبالتالي فان حكوماتهم غير شرعية، ... )

وفي استنتاجات غريبة يكتب : ( ... غير أن على الشيعة الامامية أن يتحملوا الظلم بصبر وثبات، ويحرم عليهم الثورة أو دعم التمرد، لان كل من يخرج طالبا للسلطة قبل ظهور المهدي منعوت بالشرك. وكما يظهر من العقيدة الامامية التي يعرضها المجلسي في "الرجعة"، وفي سياق تكريسه لمفهوم العدل في الفلسفة الدينية الشيعية، فان العدل سيكون مقصورا على اخذ الأئمة الاثني عشر بثأرهم من أعدائهم الأموات منذ مئات السنين، والراجعين إلى الحياة بمعجزة، مبتعدين في ذلك تماما عن فكرة العدل والسلام الإلهيتين في الإسلام الأصيل، عند تركيزهم على شخوص الأئمة أنفسهم، بينما يجري عرض الخلاص من الظلم الذي سيتمتع به جميع المؤمنين عند الثأر من أعدائهم القدامى، خاصة (أبو بكر وعمر)، وهو ما يغطي على كل الاعتبارات، ليبدو في المحصلة النهائية أن السبب الأوحد لرجعتهم من القبر، بعد غياب طويل في كتاب جديد وإسلام جديد هو الثأر من أعدائهم السنة، ليوصل المجلسي بذلك مركزية دور الفقيه عند الاماميين إلى أقصى برج سعدها ، بحسب تعبير المؤلف ) .

والكاتب كما هو جلي للانسان الخبير جاهل بكل ابعاد المذهب الشيعي , وغافل عن اساطينه , وغير مطلع على مسانيده وتصنيفاته , فاتفاق الشيعة على ان كتبهم المعتبرة ( اربعة ) , ليس من بينها ( بحار الانوار ) للمجلسي , وهذه الاربعة خاضعة لعلوم التصنيف والنقد والتجريح , ومن ثم التشريح . وعلماء المذهب اشهر من نار على علم , ليس العلامة المجلسي من الاركان فيهم . والشاهد ان هذا حال الباحث , فكيف هو حال الجاهل المشحون ؟! .

وبالمقابل يحاول البعض في الطرف الشيعي السير على منهج ينفر الآخر ويزيد في شحنه , من خلال التركيز على مجموعة قضايا خلافية , باسلوب هجومي عنيف , وكذلك هو اسلوب لا يمكن اعتماده لنشر المذ هب عالميا . فاعتماد العاطفة ودغدغتها لاينتج خارج محيط دائرة الداخلين ضمن محيط هذه الدائرة , فلو اردنا ان نعرض بضاعتنا يجب ان تكون متناسبة مع الطلب العالمي .

يقول الدكتور ( محمود ايوب ) , و هو استاذ في جامعة ( تمبل ) الامريكية متخصص في الاديان , متحدثا عن انتشار التشيع والدوافع اليه في حوار له في ايران , ترجمه ( محمد عبد الرزاق ): (لقد بدا اهتمام الغربيين بالدين الاسلامي والتشيع يتراجع بعد الحرب العالمية الثانية، وانحسرت دراساتهم في‏ذلك تقريبا. فلم يكن المستشرقون - آنذاك - يعرفون من الاسلام سوى الاسلام الاشعري، وكانوا يقولون بان التشيع ليس‏سوى حركة فارسية ايرانية، وليس هناك اسلام شيعي. لكن سرعان ما تلاشت هذه النظرة تجاه التشيع، وبدا الاهتمام يتزايد بافكار ومعتقدات الشيعة.نعم، يمكننا القول بان الغربيين لم يدركوا كنه الايديولوجيا الشيعية حتى الان. كما يشير سماحة آية اللّه مصباح اليزدي‏الى انهم لا يزال يظنون بان (ولاية الفقيه(، هي تلك السلطة المطلقة التي تصادر جميع انواع الحريات. الا انه يجب علينا ان‏نساهم في نقل افكار التشيع للاخرين وتوضيحها. ) .

ومن ثم يضيف في معرض جوابه عن سؤال حول السبب في جنوح غالبية الشباب نحوالتشيع : (نعم، غالبية المحققين الشباب والمتابعين من الناس، توجد لديهم رغبة ملحة بمعرفة التصوف، فاليوم لم يعدالاسلام منحصرا بالاشعرية فقط، وانما ثمة اهتمامات واسعة بالتصوف والتشيع والعرفان. فزوجتي - مثلا - تدرس هذه‏الايام في جامعة بنسلفانيا في قسم الاداب، وكثيرا ما تواجه اسئلة الطلبة حول الاسلام الشيعي، والادب الفارسي،... والخ،فهذا التوجه والاهتمام يتضاعف يوما بعد آخر ) .

ومن جواب الدكتور ايوب نعي ان الحاجة في العالم اليوم هي لشريعة وفكر ينمي الاخلاق ويزيد في السمو الروحي , لان اغلب مجتمعات العالم عانت سلبيات المادية الحديثة وتدهور القيم فيها , لذلك هو ما يجب ان نري الآخر انه لدينا .

يكمل الدكتور ايوب حديثه عن دوافع دراسة الغربيين للاسلام والتشيع : (لهذه الدوافع جذور تاريخية قديمة، فمنذ القرن السابع عشر تقريبا وحتى القرن العشرين، كان المستشرقون مايزالون يدرسون ويحققون في مفاهيم الاسلام، وبدوافع مختلفة. فبعضهم كان بدوافع سياسية، وآخر للتبشير باليهودية‏والمسيحية كما يطلق عليها قساوسة المسيح واليهود، وذلك عن طريق فهمهم لاصول الاسلام وقوانينه. اما في الوقت‏الحاضر فالامر يختلف تماما، لان طلاب الجامعات اليوم لا يدرسون الاسلام لهدف ما سوى الاطلاع على حضارة‏المسلمين، والتعرف على مناهجهم. وقد يسلم بعضهم جراء ذلك، وان لم يسلم فانه يبقى على صلة ورغبة في الدين‏الاسلامي وقراءة حضارته وثقافاته، دون هدف معين او محدد، وانا اعتقد ان وضع المعارف الاسلامية اليوم، هو احسن‏بكثير مما كانت عليه في السابق قبل خمسين او عشرين عاما ).

يقول ( حسن العطار ) في ( الخطاب الشيعي وثقافة الانتصار ) : (للخطاب الشيعي إسهام ملحوظ في صياغة البنية النفسية السائدة للجماهير الشيعية ، ومن ثم تحديد علاقة الأجيال بواقعها المعاصر ، انفتاحاً أم انغلاقاً ، تسالماً أم تصارعاً ، سكوناً أم حركة فاعلة ، ومن هنا كانت الشعائر تضطلع بمسئولية مزدوجة في النقل الموضوعي للحدث التاريخي للأجيال ، وصياغة الوعي في زوايا الفكر ، لتكون قضية كربلاء الدائمة ، الانتصار لنهج الإمام الحسين (عليه السلام) وتمثل أهدافه ) .

ومن هنا يجب ان تدرك المنابر الشيعية ( الكلاسيكية ) ان المطلوب هو ( نشر ثقافة الوعي ) , لا ( ثقافة التصادم والتوهين ) لدغدغة العواطف .

يضيف العطار : (إذ أن الوعي ليس مجرد تراكم للمعلومات ، أو الاجترار المكرور للأحداث ، بقدر ما هو استنارة في الرؤية للتاريخ ، وفهم الواقع المعاصر بآفاقه وتحدياته ، وهو ما يصطلح عليه القرآن الكريم بالبصيرة ، وما وصف به الحسين أصحابه (حملوا بصائرهم على أسيافهم ) ) .

لعل اهم الاشكالات في الخطاب الداخلي الاسلامي هي ( عدم فهم الآخر ) , والخوف مما يريد , والخشية من تمدده , والامر الاخير ناتج عن ضعف بالتأكيد , فلو كنت املك العقيدة والفكر الناضجين , لن اكون غرضا سهلا في متناول كل يد .

ان الجميع يرى انه ينطلق في مشروعه من جوهر الحقيقة , لذلك اذا اردنا ان نتحاور يجب ان نشرح للآخر ثوابت الانطلاق والاساس المتفق عليه , وحدود كل منا .

ان اصعب ما يواجه ابناء الامة اليوم هو الانحراف في تفسير المفاهيم , وهو ما عبر عنه آية الله ( محمد اليعقوبي ) في شرحه لمسيرة آية الله ( محمد الصدر ) , فاننا قد نشترك في تقبل الكثير من المفاهيم , كالجهاد و العدل وحاكمية الدين .. الخ , لكننا نختلف في تفسيرنا لهذه المفاهيم .

حين نطرح على الشيعي او الصوفي او الازهري كلمة السلفية – مثلا - , سيتبادر الى ذهنه ذلك السلوك التكفيري والمد المالي والبساطة العقائدية والفكرية لدى المنتمين للسلفية , لكننا حينما نقرأ رأي السلفيين في السلفية سوف نرى امرا آخر . يقول (سلطان بن عبد الرحمن العميري ) في (نقد الخطاب السلفي... وغياب القيم ) : (وقبل أن نلج في تفاصيل ما يتعلق بتلك الموجة الناقدة لا بد لنا أن نعطي تعريفًا مختصرًا للخطاب السلفي ونحن نقصد به هنا الخطاب الذي يعتمد على الانطلاق من الكتاب والسنة، ويقوم على مركزية اعتبار فهم السلف الصالح في التعاطي مع القضايا الدينية ويبني مواقفه على ما تقتضيه تلك المنطلقات ويكون المقابل للخطاب السلفي بهذا التصور كل خطاب لا يجعل الكتاب والسنة وفهم السلف منطلقًا أوليًّا له كالخطاب الاعتزالي والأشعري والصوفي والشيعي والعصراني فضلا عمن جعل العقلانية الغربية منطلقا له ) .

نلاحظ رؤية الكاتب واعتقاده الذي يؤمن بصحته مع ان جميع المذاهب والفرق ترتكز على الكتاب والسنة في حركتها الاسلامية . وبالتالي ( الآخر ) يرانا على خلاف ما اراده الله تعالى .

من هنا يجب ان نوضح للآخر واقع عقائدنا , لا ان نهاجم عقائده , والفرق بين الامرين بيّن .

ومن اهم مشاكل الخطاب المنبري الاسلامي تصارعه في النقاش على الجزئيات والمصاديق , والتي ربما تكون مشوهة وغير صحيحة التطبيق . او انها مرفوضة لدى النخبة وموجودة في ثقافة العوام المتأثرة دائما بالمحيط .

وقد اورد ( احمد كمال ابو المجد ) مجموعة مشاكل وعوائق في مسار الخطاب الديني , عند استيعابها وتوظيفها بشكل صحيح يمكن ان تتغير وتغير :

العنصر الأول: الترهيب والتخويف , أي : الدعوة للإسلام عن طريق الترهيب والتخويف، وإغفال الدعوة إليه عن طريق الترغيب والتبشير .

العنصر الثاني: الميل إلى التشديد على الناس .

العنصرالثالث: هو الغفلة عن مقاصد الشريعة، والوقوف عند ظاهر النصوص وحروفها .

العنصر الرابع :الغفلة عن ترتيب الأولويات ومراتب الواجبات الدينية.

العنصر الخامس:الغفلة عن دور العقل وأهمية العلم فى بناء التصور الإسلامي .

العنصر السادس:مداومة الحديث عن الماضي، والذهول عن الحاضر، والخوف من المستقبل .

العنصر السابع: علاقة المسلمين بالغير:هذه القضية بالغة الأهمية، وعلى فهمها الصحيح يتوقف مستقبل العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الإسلامى الواحد.. ومستقبل العلاقات بين المسلمين وغيرهم من شعوب الأرض.. ومن المؤسف أن بعض نماذج الخطاب الإسلامى المعاصر تقع فى أخطاء فادحة وهى تصف هذه العلاقة "لجماهير المسلمين". ويتمثل الخطأ الأكبر فى إقامة سور نفسى واجتماعى يحاجز بين المسلمين وسائر الناس .

فيما يقترب ( نور الدين بو كرديد ) من ذات العناصر السابقة , عند وصفه لحالة الخطاب الاسلامي المعاصر :

بالنظر إلى مستويات الخطاب ومتلقيه نجد أن هناك فضاءات متنوعة يمكن أن تتناول على مستويين:

أ- الفضاء الداخلي أو المحلي: وفيه يتوجه الخطاب إلى فئات متفاوتة، فيما: الطفل والشاب والفتاة والمرأة والرجل، كل بحسب مستواه التعليمي أو الثقافي، وبحسب موقعه ومهنته وظروفه الخاصة، وما نلاحظه على هذا الخطاب هو عدم مراعاته أحيانا طبيعة هذه الفئات والشروط المتطلبة لذلك، ويتجلى هذا في مظاهر كثيرة منها:

1- غياب الرؤية الفكرية المتحدة، والمشروع الدعوي الموَّحد، ومن ثم افتقاد الخطاب الإسلامي المتفق عليه بين كثير من مؤسسات الدعوة ورجالات الفقه والشريعة، وكذلك غياب الفتوى المتفق عليها في كثير من الأمور التي تهم الأمة وتمس شؤون دينها: مثل رؤية الهلال، وتحديد العيدين، والفوائد المصروفية...الخ.

2- تعطيل المؤسسات والمنابر المتخصصة والمؤهلة لتقديم المعرفة الإسلامية الصحيحة في بعض البيئات الإسلامية أو عرقلتها أو توظيفها لخدمة المآرب السياسية .

3- التقوقع داخل مذهب فقهي أو عقدي معيّن، وفرضه في التعليم ووسائل الإعلام والثقافة وإصدار الفتاوى الدينية من خلاله، ثم تصدير هذا التوجه المذهبي الضيق إلى عامة المسلمين في العالم، بمختلف الوسائل والأساليب.

4- التشبث برأي واحد في المسألة ومصادرة جميع ما عداه من وجهات النظر، والتشبث بالانفراد بالفهم والمسؤولية عن الدين .

5- تجاهل أولويات القضايا في التأليف والكتابة فيما يعالج أزمات الأمة ويعمل على توحيدها وإصلاح ذات البين فيها، والعمل على التقدم والرقي بها، والاشتغال بدلا من ذلك في بعض الأوساط الإسلامية بالفتن المذهبية، وإيقاد نار الصراع والتنابذ والاتهامات بالزندقة أو الفسوق أو التكفير من خلال تأليف الكتب والمقالات وإصدار الأشرطة والبرامج المرئية الساخنة.

6- التشديد والتضييق في فتاوى بعض العلماء فيما فيه سعة ومجال للاجتهاد.

7- تحميل النصوص القرآنية والنبوية غير ما تحتمل وإساءة فهمها.

8- مجابهة بعض التيارات التي تنتقد الإسلام مجابهة ساذجة من دون بيان الحجج المقنعة.

9- التأكيد المبالغ فيه من قبل الكثير من الوعاظ وخطباء المساجد على موضوعات الترهيب بأصناف العذاب الأخروي والتزهيد في تعمير الحياة والإبداع فيها، وإهمال بعضهم تناول قضايا المجتمع والإنسان من معاملات وعلاقات وآداب.

10- فراغ كثير من الساحات والمنابر من المتخصصين القادرين وانكماشهم على أنفسهم نتيجة أوضاع سياسية معينة في بعض البيئات الإسلامية وإسناد هذه المهمة أو تولِيّها من قبل آخرين غير مؤهلين.

و اذا جمعنا ماسبق سنلاحظ جلياً اننا وسط بحر من السيوف الاعلامية الموجهة للقتل في الداخل .

يصف العلامة المرجع الراحل السيد ( محمد حسين فضل الله ) الخطاب الاسلامي المطلوب بقوله : (للخطاب الإسلامي في حركة الدعوة إلى الإسلام، الدور الأساس في انفتاح الوجدان الإنساني على الإسلام، من خلال انسجامه مع مستوى الذهنية العامة في طريقتها في تكوين التصوّرات والانطباعات المتنوّعة، وإدراك القضايا العامة، وتحريك المشاعر والانفعالات، وتقديم المضمون الحيوي الذي يلتقي مع الحاجات الإنسانية، والمنطق العام الذي يرتكز على العقل تارةً، وعلى العاطفة أخرى، وقد يدخل في تزاوج بينهما تبعاً للمفردات التي تختلف حركتها في النفس من خلال التأثيرات المضمونية في علاقتها بالحسّ والعقل والوجدان، وفي نوعية الأسلوب وصلته بالأجواء المهيمنة على الواقع والكلمات المتحركة في الخطاب... ثم حركة الرصد المستمر للمتغيرات في الأحداث والأشخاص والعلاقات والمواقف والمواقع. *إنَّ ذلك هو الخطُّ العام الذي لا بد للخطاب الإسلامي من أن يتمثّل به، في حركة تجدّد دائم في الشكل والمضمون والحركة والمنهج والصوت والصدى، لأنّ الإنسان الذي يتوجّه الخطاب إليه في عقله وقلبه ورغباته ومخاوفه، هو مخلوق متحرك من موقع حركة الإرادة في ذاته، متغيّر تبعاً للمؤثّرات التي تترك آثارها المختلفة على كيانه، ما يجعله بعيداً عن الاستقرار الذاتي الذي يربطه باللون الواحد، والمضمون المحدّد، والشكل الخاص، والمنهج الثابت، وهذا هو الذي يفرض التوازن

بين خصوصية الخطاب وخصوصية الإنسان ) .



ننتقل الآن الى المحور الثاني : وهو الانهزامية في الخطاب النخبوي السياسي الاسلامي :

رأينا ورأى العالم معنا ان الثورات العربية في ربيعها لم تكن الا صدى للصحوة الاسلامية , ولذلك هي كانت بشير خير للمسلمين , ونذير شؤم لاعداء الاسلام . فعمد الاعداء لاعادة توجيهها والاستفادة منها , فيما راحت النخبة الاسلامية التي قادت الكثير منها – تأريخا وحاضرا – الى التنازل عن الكثير منطلقاتها الاسلامية , تحاشيا للنقد الخارجي والضغط الدولي , وارضاءا لاطراف سلبية ! , متجاهلة قانون الله الحكيم ( ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم ) .

يقول آية الله الشيخ ( محمد اليعقوبي ) : (إن هذه الانتصارات وهذا التقدم فيه امتحان واختبار للإسلاميين – علماء ومثقفين وسياسيين ومتدينين – ليبلوهم الله تبارك وتعالى ايهم أحسن عملا , وهل هم بمستوى هذه النعم وتحمل هذه المسؤوليات ؟ إن لله تعالى سنناً في عباده ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر43) ومن سنته تبارك وتعالى في هذا المجال أن يتم نصره على عباده المؤمنين إن أقاموا دين الله تعالى وأجروا أحكامه وكانوا من أهل الآية الشريفة (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ )(الحج41) وهؤلاء وعدهم الله تبارك وتعالى في الآية التي سبقتها (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)الحج40 .وان لم يكونوا كذلك جرت فيهم سنة أخرى أشارت إليها الآية الشريفة (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) (محمد 38) فالله غني عن كسل المتقاعسين وخذلانهم وتلكؤهم وسوف يأتي بقوم آخرين ينهضون بالمشروع الإلهي ولا يبالي بهؤلاء السيئين أين يصيرون .وهذا الكلام إنما نوجّهه لمن يسموّن بالنخب من علماء وصناع الفكر والثقافة ومتفقهين – كحضراتكم – لان التمكين المذكور في الآية الأولى إنما يكون لهم , وعليّهم المعوّل في إقامة أحكام الله تبارك وتعالى , وليس على عامة الناس المساكين الذين همهم تدبير شؤون حياتهم الخاصة مع القيام بواجباتهم الدينية , فأنتم المعنيون بهذا الامتحان الإلهي الذي تتجلى مظاهره بقوة هذه الأيام. وقد نقلنا لكم في بعض الخطابات السابقة روايات في هذا المجال ومنها ما روته الصديقة الزهراء عليها السلام عن أبيها (صلى الله عليه وآله) (إن علماء شيعتنا يحشرون فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدِّهم في ارشاد عباد الله) .إن من المؤسف ضعف كثير من المتصدين لقيادة الحركة الإسلامية في البلاد العربية والإسلامية وهزيمتهم داخل نفوسهم إما مجاملة للغرب وكسب ودهم أو لتيسير وصولهم إلى السلطة .وعملاً بالبراغماتية التي تتطلبها السياسة من وجهة نظرهم , ففي عشية الانتخابات التونسية يظهر زعيم حركة النهضة الإسلامية على وسائل الإعلام ويعلن تخليه عن بعض أحكام الاسلام فيما يُدعى بحقوق المرأة ) .

وصاحب المثال الذي ضربه المرجع اليعقوبي قد ينطبق عليه وصف الكاتب ( ابراهيم السكران ) في بحثه ( تأملات في الخطابات البديلة ) : (هذه الحياة مبنية على صراع إرادتين، إرادة بشرية وإرداة إلهية (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال:67]. الرغبات البشرية تتمظهر في سلوكيات مباشرة معزولة عن أساس نظري وهذه مشكلة العامة، أو الحل العامي، لافرق، فسلوكهم مع رغباتهم وقلوبهم مع إرادة الله، ولذلك هم أرقى في المعيار القرآني. بالمقابل، النخب المثقفة المنحرفة تتألم من الارتطام المستمر بين رغبتها البشرية وإرادة الله، فتصعد إلى تبديل إرادة الله (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ) [الفتح:15] فتصل إلى منطقة الخطر النهائي، إنه التعدي على الذات الإلهية. شتان بين من يخالف نصوص القانون وبين من يزوّر نصوص القانون ذاته، الأولى مخالفة داخل الدولة والثانية اعتداء على الدولة ذاتها! ) .

فيما يصف السيد محمد حسين فضل الله امثال هؤلاء ( الانهزاميين ) بقوله : (الخطّ التوفيقي بين المضمون الإسلامي والمضمون العصري _ إذا صحَّ التعبير، وهو الذي ينتهجه المثقفون الإسلاميون في انفتاحهم على الخطوط الثقافية المعاصرة المتأثّرة بالتفكير الغربي، في اتجاهاته المتنوعة، في الدوائر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي استطاعت التأثير في المجتمعات الإسلامية، بفعل السيطرة الاستعمارية على الواقع الإسلامي كلّه، ما جعل الكثيرين من المسلمين خاضعين لتأثيرات مفاهيمه وطريقته في الحياة ونظرته إلى الأمور، بحيث وجد الإسلاميون المعاصرون، أن الطريقة الفضلى لاجتذاب هؤلاء المسلمين من جهة، ولإقناع العالم الغربي بواقعية الإسلام، وانفتاحه على تطورات العصر، وقدرته على مواجهة المتغيرات في حركة الحياة، من جهة أخرى، هي في الانسجام مع العناوين الكبرى المطروحة في الساحة المعاصرة الغربية، كالديمقراطية، أو الاشتراكية، أو الاقتصاد الحر، أو قضايا الحريات، وما إلى ذلك من العناوين التي تخضع لقواعد فكرية تختلف مع القاعدة الفكرية الإسلامية، لأنهم لاحظوا إمكانية إخضاع بعض التشريعات الإسلامية لها، أو التوفيق بينها وبين الإسلام.) .

الى هنا بتنا ندرك الفرق بين عرض ما نريده , وبين سحق ما يريد عرضه الآخر . واصبحت الصورة جلية امام صاحب المنبر الديني او السياسي الاسلامي , ليخلق صورة ذات الوان متوازنة , تظهر جمال ما عندي , ولاتؤذي – في ذات الوقت – عين غيري .

ربما يصورنا البعض – كاسلاميين – على اننا اصحاب منهج متعالي ورافض للآخر وغير واضح المعالم , وهذا ناتج لانه اعتمد على الاعلام الظاهر دون جهد يبذله في سبر غور النظريات الاصلاحية الاسلامية , او ربما هم اطلعوا على بعضها , لكنهم يرون خلافها في التطبيق والواقع الاسلامي . وسط هذا التعارض والتصارع على منابر المسلمين . كما هو حال ( شهاب الدمشقي ) في بحثه (الأسس الفكرية للخطاب الإسلامي المعاصر ) .

ان كل ذلك يفرض علينا ان نعيد صياغة خطابنا الداخلي والخارجي , على المنبر الديني او المنبر السياسي , لان كليهما يصنعان المجتمع المسلم , ويوجهان سلوكه .

يقول آية الله الشيخ محمد اليعقوبي : (إن الله تبارك وتعالى أحق أن تخشوه والحق أحق أن يتبَّع وليس الغرب , إنها مفارقة غير منصفة ان نستحي من إعلان هويتنا الإسلامية والتزامنا بما شرّعه الله تبارك وتعالى , بينما لا يستحي الغرب من إصدار مؤسساته بشكل رسمي قوانين تبيح زواج المثليين والشذوذ الجنسي واستباحة المنكرات التي يعلمون هم قبل غيرهم أخطارها الصحية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية فهل من المعقول أن نستحي نحن ونجاملهم على حساب شريعة الله تبارك وتعالى وهم بهذه الضعة والدناءة ؟ من أجل أن لا يضعوا (فيتو) على تصدي الإسلاميين , مع أن هذا الأمر ليس بأيدي الغرب , وإنما الشعوب هي التي تختار من يمثلها .

إن هذه مؤشرات مقلقة تنبئ عن عدم أهلية المتصدين لتحمل مسؤولية التقدم بالمشروع الإسلامي العظيم , وتشجع الغرب على فرض أملاءاته على المسلمين (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ) (النساء102) وأي سلاح أمضى وأقوى من سلاح الإسلام وإرادة الشعوب فلماذا نغفل عنها ونتخلى عنها ؟ وماذا يبقى بأيدينا في المواجهة مع الغرب ؟ وإذا كانت الغفلة متصورة في حق غيرنا لأسباب غير خافية , فأننا – أتباع أهل البيت عليهم السلام والمرجعية الواعية الرشيدة – غير معذورين , ولا يُتوقع منّا التقصير لما نملك من آثار ضخمة ومستوعبة من روايات أهل البيت عليهم السلام وكتب علمائنا الصالحين ) .




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموسوعة المعلوماتية عن مدينة الناصرية .. مهد الحضارة ومنطلق الابداع

عين سورون ( عين الرب )

تداخل العوالم .. بين الادلة و النظريات