بين باقر الصدر والسيستاني .. المساحة العلوية

بين باقر الصدر والسيستاني .. المساحة العلوية

   المرجعية الدينية هي الامتداد الطبيعي للقيادة المعصومة حسب منظومة الفكر الشيعي . والقيادة المعصومة هي الطريق الوحيد الذي يسير من خلاله المشروع الالهي لهداية البشرية نحو غاياته ، لذلك من الطبيعي ان يكون المرجع الديني حاملا لمشروع وطريقا سالكا للمتحركين باتجاه الغايات السامية ، وبالتالي لا يقبل المنطق العقلي الديني وجود مرجعية ساكنة غير متحركة . ان نظرة واحدة في سيرة اصحاب المعصومين تكاد تكون كافية في رسم صورة الحامل للمشروع الشيعي ، الذي من المفترض ان يكون هو المشروع الاسمى لهداية واصلاح البشرية . حيث لا يمكننا ان نجد واحدا من اصحاب المعصومين الا ونجد له مواقفا مفصلية وحركة دؤوبة داخل كيان الامة وبين افرادها ، وقد تعرضوا للكثير من الاذى في طريق ذات الشوكة ، لا اقل من التسقيط والقتل المعنوي والطعن التاريخي .. لكن المميز الاكبر لهذا الكم من القيادات غير المعصومة هو مفهوم ( التأسيس ) ، وهو مفهوم طولي ضمن مشروع ( التمهيد ) لدولة العدل . من هنا انطلق في ايجاد مقارنة بين مدرستين ادعتا تمثيلهما للمرجعية الشيعية اليوم ، او لنقل النيابة العامة للمعصومين . وتقريبا للفائدة اردت استعراض نموذجين مثلا لهاتين المدرستين ، واخذهما مستند الى بعدين ، الاول هو ترسخ وجودهما الاعلامي ، والثاني هو المرحلة التأسيسية في تاريخ الشيعة المعاصر التي وجدا فيها ، وهذان النموذجان للمرجعية هما السيد الشهيد محمد باقر الصدر والسيد علي السيستاني . لن يكون ما اكتبه هنا بحثا واسعا نسبيا ، بل مقالا مختصرا لبيان خطورة الواقع الشيعي اليوم ، حيث تراجع المنظومة الشيعية ، بسبب تصدي من لا خلاق له في امر القيادة للمرجعية الدينية الشيعية ، لاختلال موازين التشخيص الجماهيرية ، الناشئ عن سياستي التجهيل وخلط الاوراق . ان الادراك العالي لوظيفة المرجعية الدينية في الفكر والتاريخ الشيعي عند الشهيد الصدر جعل له مائزا غير قابل للمقارنة او المناقشة عند عرضه مع المستوى الادراكي الغائب والغائم في شخصية السيد السيستاني . وهذا المائز هو ذاته مفهوم ( التأسيس ) الذي ميز الحركة التاريخية للاصلاح والنهوض لدى الشيعة . ان التأسيس لا يعني هنا انشاء منظومات جديدة عن العدم ، بل يعني عصرنة الحركة الشيعية وبث الحياة فيها على كل المستويات ، ومن ثم فتح ابواب وطرق جديدة لسير مشروع التمهيد باتجاه غايات الاصلاح العالمي ، القائم على اساس المنهج الرباني . ولعل البداية تكون دائما داخل الكيان الذي يعد قادة المشروع الاصلاحي ، فكان للشهيد الصدر مشروعا ضخما لتغيير واقعي الجمود والتقوقع في الحوزة العلمية . فعمد الى المناهج الحوزوية التي عفا عليها الزمن ، واصبحت سببا في توقف الابداع الفكري ، وحاول ايجاد البدائل لها ، لكنه واجه موجة من اصحاب العقول  المتحجرة ، تسببت في تأجيل الاستفادة الواسعة من تلك المناهج البديلة . وكان للشهيد الصدر مناهجه الثورية الجديدة في المنطق والاصول وغيرها من مقتضيات الدراسة الحوزوية ، وبما يفتح الطريق السالك امام العقل الشيعي للابداع . فيما كان للشهيد الصدر وقفته التأسيسية امام الهجمات الثقافية والفكرية الغريبة الغازية للساحة الشيعية ، حيث كانت اساليبه في المواجهة تؤسس لمنهج جديد يتمثل في إثبات ان الفكر الاسلامي ليس قادرا على المواجهة وحسب ، بل هو قادر على ادارة الحياة ، فكانت ( فلسفتنا واقتصادنا و ... ) ، مما جعل المدارس الغربية والشرقية الغازية تتراجع الى الزوايا الغرائزية المظلمة لتعيش فيها . وكذلك كان له مواجهة تأسيسية اخرى في قضية كانت جدا خطيرة تتعلق بالمرأة المسلمة وضياعها في السلوكيات والثقافات الغازية ، فلم يكن ليكتفي بالفتاوى والرؤى الفقهية ، بل ذهب لطرح النموذج الفاطمي للمرأة المسلمة ، قبالة النموذج السلعي للمرأة الذي تطرحه الثقافات الغازية . وكان نموذجا ساميا ، اثبت ان المرأة المسلمة حاملة لمشروع سامي ، وان لها دورا مفصليا في الاصلاح ، مع حفظ كرامتها ، وبعيدا عن تحويلها الى سلعة . وانتقل الشهيد الصدر الى تأسيس مفهوم الواقع القراني ، بمعنى ان يكون للقران دور في حياة الامة ، لا في مساجدها فقط ، وحاول جلب الامة نحو القران كدستور واقعي ، لا كمفاهيم كبروية ، لا تعي الامة حجم المسافة التي تفصلها عنها . اما في الجنبة السياسية فكان للشهيد الصدر وقفة كلفته حياته الشريفة ، لانها كانت وقفة واجبة وفرض عين على المرجعية الشيعية ، لبيان ضلالة الحاكمين وخطر مشروعهم على الامة ، وذلك من مقتضيات مفهوم شهادة المرجعية على الامة . فأسس لمفهوم التنظيم السياسي ، كما اسس لمفهوم ( المشروع السياسي ) ، حيث كان افتقاد المشروع احد اهم اسباب ضياع جهود الشيعة ودمائهم التي سالت على هذه الارض . من هنا كلف الشهيد الصدر مجموعة من النخب تنظيم الموقف السياسي الشيعي .
ومن هنا لم يكن الشهيد الصدر ليذر الأمة واختياراتها المائجة ، حيث الاختلاف وغياب الوعي والمشاريع الغرائزية الغازية ، بل أدى مفهوم الشهادة على الأمة بالشهيد الصدر الى احتضان ورعاية المشاريع الصالحة ، فيما كان واضحا في كشف زيف المشاريع الطالحة .
وقد أنتجت مدرسة الشهيد محمد باقر الصدر جملة من المجتهدين ، الذين كان لهم الحضور الكبير في مشاريع الأمة ، مع تفاوت يرتبط بشخصية كل منهم .
ان المقارنة بين سيرة وعمل ومشاريع الشهيد الصدر التي أشرنا الى بعضها أعلاه مع سيرة مرجعية السيد علي السيستاني تكشف بوضوح وجود مدرستين متمايزتين داخل الكيان الشيعي ، حيث مدرسة الشهيد الصدر المتحركة العاملة التأسيسية ، ومدرسة ينتمي لها السيد السيستاني ، غائبة خاملة غير واقعية ، تعيش خلف الكواليس .
لا نكاد نجد للسيد السيستاني مشروعا غائيا ، او فكرا استراتيجيا ، او حتى حضورا عابرا في حركة الأمة الاسلامية . ولعل مصطلح ( الوقوف على مسافة واحدة من الجميع ) الذي تتبناه مرجعيته يكشف حقيقة ان الرجل لم ولن يكون قائدا ورائدا للشيعة العاملين يوما . فكيف تكون المرجعية بنفس المسافة من الصالح والطالح ، وهذا الامر مخالفة صريحة للقران الكريم والسنة النبوية .
الا ان هذا المصطلح يفيدنا في ادراك كينونة مرجعية السيد السيستاني القائمة على الانزواء والانكفاء والخشية من مواجهة المشاريع السيئة . وبالتالي هي مرجعية تخالف بصورة كبيرة المنهج العلوي في الإصلاح تحت الراية المحمدية .
والسيد السيستاني اليوم لا يدرس ولا يكتب ولا يخطب ولا يتحدث ، بل حتى كتبه الفقهية لم تكن الا جمعا بيد بعض الشخصيات . لذلك يمكن القول ان السيد السيستاني غير موجود عمليا . لكنه إعلاميا وماليا ونفوذا هو الأكثر سيطرة وانتشارا ، بسبب سياسة مرجعيته في ممالئة الجميع ، سيئهم وحسنهم ، مما جعل للجميع مصلحة في نفخ جسد هذه المرجعية غير الواقعية ، سيما من السياسيين والإعلاميين وبعض العمائم الغنائمية . فيما تجد الدول والمؤسسات ذات المشاريع الغازية مصلحتها بوجود مرجعية تدجينية قادرة على تخدير الكيان الشيعي كمرجعية السيد السيستاني ، وهي كذلك ستكون درعا يواجه المرجعيات الشيعية العاملة صاحبة المشاريع الإصلاحية . لذلك رأينا كيف عمل الاعلام على إطلاق حملة واسعة لتضخيم مرجعية السيد السيستاني ، حتى وصل الامر اليوم الى تبني قنوات كبيرة كقناة الحرة الامريكية مرجعية السيد السيستاني بالدعم ، وقيام بعض الصحف الامريكية بترشيح الرجل لجائزة نوبل للسلام ، ولا اعرف عن اي سلام يتحدثون ؟ ، والعراق اليوم عبارة عن خنادق متعادية طائفيا وسياسيا ، فيما ضاعت حقوق ودماء الأكثرية الشيعية الغنية تحت راية مرجعية السيد السيستاني ! .
لقد توفرت للسيد السيستاني مجموعة كبيرة جداً من عوامل الدعم الجماهيرية والحكومية والحوزوية والدولية ، وبشكل مفرط وغير علمي ، بل لأسباب مصلحية أنانية وجهوية ، ومع ذلك فشلت مرجعية السيد السيستاني في إيجاد مشروع يكفل حقوق الشيعة او ينهض بواقعهم ، بل أصبحت ملاذا لكل المشاريع المتضاربة والمختلفة ، تحت ظل سكوتها وصمتها ، فيما هي احد اهم معرقلات انطلاق المشاريع الإصلاحية الشيعية ، بسبب وجودها الإعلامي ونفوذها الحوزوي ، حيث خلقت حلقة تدجينية وتجهيلية كبيرة ، بصمتها وغياب مشاريعها .
فيما عانت مرجعية السيد الشهيد محمد باقر الصدر حربا ضروسا ، في داخل الحوزة العلمية ، والكيان الشيعي ، والمؤسسات الحكومية ، والمنظمات الدولية ، ومن اغلب الدول الكبرى التي ترعى مشاريع قتل الشعوب . ومع ذلك أنتجت هذه المرجعية من الفكر والعمل ما أسس لما بعده بنجاح كبير .
ان وجود مدرستين مرجعيتين شيعيتين امر واضح وملموس ، وتعارضهما فكرا وعملا امر واقعي ، يدل عليه إصرار المدرسة التي ينتمي لها السيد السيستاني على رفض المناهج العلمية التي وضعها الشهيد الصدر ، والتي غيبوها عن المنهج التدريسي لحوزتهم الكلاسيكية عنادا وكبرا وعداء .
والملخص ان التشخيص للقيادة هو اول مسار النجاح ، وبالتالي طالما بقي الشيعة تحت راية المدرسة الكلاسيكية المنزوية فهم في خطر كبير ، يعانون الجهل وضياع الحقوق والدماء .
ان المسافة التي تفصل بين مدرسة الشهيد السيد محمد باقر الصدر وبين المدرسة التي ينتمي له السيستاني هي ذات المسافة بين المدرسة العلوية وبين المدارس الاخرى .



علي الابراهيمي

Ali H Ibrahimi

a1980a24@gmail.com




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموسوعة المعلوماتية عن مدينة الناصرية .. مهد الحضارة ومنطلق الابداع

عين سورون ( عين الرب )

تداخل العوالم .. بين الادلة و النظريات