ثورة الفكر العالمية – الحلقة الرابعة

 



 

 

 

 

 

 

 

 

هيبة الدولة الفاطمية وسلطانها وأمانها - بعد انحدارها - لم يعدها الا بعض الشيعة الإمامية الذين كانوا داخل نظامها ، بقيادة بدر الجمالي ، وهو ذو اصل ارمني ، شيعي إمامي المذهب . حيث هزموا الترك والاعراب وأوقعوا بهم ، وضموا من انتقض من إمارات الفاطميين في الشام وافريقيا ، ورفعوا الخراج المجحف عن كاهل الناس ، حتى عادت الدولة الى أحسن ما كانت عليه[1] .

وقد وصل الأمامي الاخر أبو علي بن الأفضل الى رتبة كبير وزراء الدولة الفاطمية ، واستقامت على يديه أمور الدولة كغيره من وزراء الأمامية ، وعادت الأموال المستبدة . لولا ان غدر به من لم يقبل عقيدته من الترك والإسماعيلية . اذ نشط في دعم مذهب الأمامية من الشيعة ورسالتهم والدعاء للمهدي المنتظر[2] . وهو امر يكشف عن قوة هذه العقيدة وخشيتهم منها .

وحين استبد الترك والموالي بالدولة في عهد الفائز الفاطمي واعتدوا على الحرمات في القصر بعثت النسوة الى الوالي الأمامي طلائع بن رزيك الملقب بالصالح ببعض شعورهن غضبا ، فحمل أهله وجنده ودخل القاهرة وأعاد نظم الأمور وتأديب الموالي ، فقويت شوكة الفائز ودولة الفاطميين في عهده كثيرا . وكان أديبا كاتبا ، عظمت مجالس الأدب في زمنه[3] .

ان نهاية الدولة الفاطمية والدعوة الشيعية الإسماعيلية كانت على يد الترك الغز غدرا . حيث كانت اكبر أخطاء الفاطميين تولية احد الأمراء الأنانيين الوصوليين المدعو شاور الوزارة ، وتسليطه على أملاك الشيعة الإمامية من ال رزيك ، اذ ان شاور هو الذي جاء ببني أيوب الغز . فدخل بنو أيوب مصر بالتركمان . وغدروا بحكّام الدولية الفاطمية بعد ان أكرمهم هؤلاء الحكّام . وقام صلاح الدين الأيوبي بقتل أمراء الشيعة وهدم جامعاتهم العلمية ومطاردة فقهائهم ومصادرة أموالهم ، حتى انه اعتذر للأمير نور الدين في الشام عن قتال الفرنجة لانشغاله بقتل الشيعة وتصفيتهم ، ثم انه قطع الخطبة للفاطميين واقامها للعباسيين رغم ان الخليفة الفاطمي العاضد الذي ولّاه الوزارة واختاره وقدمه على غير من المنافسين الذين كانوا أقوى منه على قيد الحياة . ثم انه استولى على كل ذخائر الفاطميين وسرقها ، بعد ان خُرِّبت مصر على يده ويد حليفه السابق شاور . فأقام دولة بني أيوب على ما أسسه الفاطميّون من بناء وإدارة ، لكنه وقومه لم يكونوا قادرين على فهم قواعد الدولة ، فخربت مصر ، والاهم انها انكسرت حضارياً منذ تلك اللحظة .

لقد تشابهت نهاية الدولتين الفاطمية والعباسية ، حيث انشغال الخلفاء بالملك والدنيا ، والمؤامرات وتحكّم النساء ، وحدوث انفصام بنيوي بين النخبة التي اعتنقت مذهب الأمامية من الشيعة وبين الخلافة التي كانت على مذاهب تخاصمهم ، وتفشي ظاهرة التشيع الإمامي شعبيا ، ومحاولة هؤلاء الشيعة الإمامية نصرة الدولة واستنهاضها ، فترفضهم طبقة الحاشية والقصر ، فسيتعين الخلفاء بالترك والغز الذين يعانون البداوة الحضارية ، فكسر هؤلاء الترك والغز ظهر الدولتين[4] .

 

ان احد اهم العوامل التي ساهمت في نفرة الناس من الإسماعيلية انتشار الفرق الباطنية بين بعضهم . فقد حصر عضد الدولة بن بويه المفسدين منهم في قلعة بين فارس وخوزستان وقتلهم ، بعد ان عاثوا بمعتقداتهم وتحالفاتهم في تلك البلاد . وقد استغل السلاجقة استماتة هؤلاء الباطنية الإسماعيلية في عقيدتهم فاستخدموهم في التصفيات السياسية واغتيال الأمراء . وهذا حال من تكون عقيدته ناقصة محتاجة الى من يضبط بوصلتها . لذا صاروا في أحيان كثيرة أدوات في اللعبة السياسية التركية والغزية السلجوقية في فارس والشام ، اذ استعملهم أبو الغازي بن أرتق في حلب لأغراضه ، ونصح بهذا ابن طغتكين ففعل وجعل لهم قلعة يأوون اليها ، فراحوا يقوون مذهبهم ويقاتلون الناس تحت راية السلاجقة . ولهذا صالحهم صلاح الدين الأيوبي أيضا ، وهؤلاء الترك والغز . حتى ان من حملوا لقب الفداوية منهم صاروا أداة رسمية للاغتيال ولعب الملوك بعد غلبة التتر والترك على بلاد المسلمين[5] .

 

فيما كانت في الجزيرة العراقية عند محيط الموصل دولة شيعية أخرى مهمة هي دولة بني عقيل ، حتى تغلّبت عليهم جموع السلاجقة المتتالية ، فرجعوا الى إقامة دولتهم في بلادهم البحرين في جزيرة أوال وشرق شبه الجزيرة العربية[6] . وكان تشيع قبيلة عقيل اختراق صريح للفكر الشيعي الى داخل القبائل النجدية ، حيث تنتسب عقيل الى عامر بن صعصعة من قبيلة هَوازن من قيس عيلان المضرية[7] التي كانت معضلة أعرابية سابقا . وهو ما يكشف قوة وسعة انتشار العقيدة الشيعية حينها . ولولا هذا التشيع ما قبلتها قبائل عبد القيس وبكر بن وائل - التي كانت لها هذه البلاد - في هجرتها من نجد الى بلاد البحرين . وقد يكون سبب هجرة هذه القبيلة عن صحاري نجد الابتعاد عن التعرب . وكان تشيع تلك القبائل بالمعنى الاعم , فمنذ زمن الامام جعفر بن محمد الصادق لم يجد الائمة من الطاعة اللازمة للعقيدة الا ما هو اقل من المطلوب كما في قول ابي عبد الله انه لم يطعه الا عبد الله بن ابي يعفور[8] .

 

 

امام هذا الانتشار الواسع للتشيّع صار للعراق دور محوري في معادلات الفكر والسياسة في العالم الإسلامي . حتى ان امير الحاج العراقي كان فَقِيه الطالبيين ، الذي حين اعترضته بنو نبهان احد أعراب طيء كان من القوة والمنعة بحيث هزمهم وقتل أميرهم . وقد كانت إمارة الحاج حينذاك – نتيجة هذا الواقع الفكري – لنقيب الطالبيين بأمر بني العباس ، وكانت منتظمة في تعايش بين أهل السنة والشيعة للعقلانية التي عليها نقباء الطالبيين . حتى أنهاها المقتدي العباسي تحت ضغط الترك عليه ، فبعث ختلع التركي أميراً على الحاج العراقي لأول مرة ، فحدثت فتنة كبيرة على يده بين أهل السنة والشيعة ، ثم خلفه من الترك على امارتها خمارتكين ، فبغضهم العرب وطردوهم ، وانقطع الحاج من العراق بسبب اختلاف أمراء السلجوقية . حتى مهّد الطريق بعدئذ بنو مزيد الاسديون الشيعة ونظموا أمره ، فعاد أهل العراق للحج . يساعدهم في ذلك انتشار وتحكّم بني الحسن بن علي بن ابي طالب في الحجاز طيلة حكم العباسيين وما بعده . وقد تميّز حكمهم بالعدل والانصاف وامان الناس ، الامر الذي دفع العباسيين الى احترامهم في الغالب وتوقير أشرافهم . حتى قدوم الغز والترك الى الحجاز حيث اسقطوا بعض إمارات بني الحسن وبدأت الفتن والاضطرابات منذ ذلك الحين ، الامر الذي اغضب العباسيين في كثير من الأحيان ، الا ان تغلّب الترك عليهم وحاجتهم اليهم منعهم من معالجة احوالهم بجدية .

وقد كان هذا التدخل التركي والغزي من جهات العراق والشام ومصر في مكة والمدينة وعموم الحجاز مدخلاً لصراع الإمارة بين الإشراف من بني الحسن ، حتى اتصل بعضهم بالدولة الأيوبية بمصر التي كانت دائمة التدخل في الحجاز ، فكان هذا الاتصال بداية تسنن الكثير منهم ، ففقدوا هويتهم ، ثم دولهم لاحقا . وكان سبب غلبة بني هاشم على مكة والمدينة انقراض أهلهما من قريش والأنصار من الاوس والخزرج زمن الفتوحات وانتشارهم في مختلف بلدان العالم . ووجود بني حرب الزبيديين الشيعة في الحجاز حينذاك . ولهذا بقي حكم المدينة المنورة بيد الطالبيين من ولد الحسين حتى نهاية الدولة العباسية .

ورغم ان أمراء المدينة كانوا شيعة إمامية اثني عشرية طيلة حكم العباسيين وما بعدهم وما بعد سنة ٧٠٠ هجرية ، الا ان أمراء دولة الترك في مصر صاحبة النفوذ على الحجاز حينها كانت مضطرة لاختيار الأمراء منهم ودعمهم ، رغم كونها دولة ناصبية عمليا ، لأنها تعلم امتدادهم الحضاري والبشري والمالي الى العراق ، وتخشى استفزاز تلك المنطقة بمن لا تعرف ، فقد كانت قبيلة بني حرب الشيعية الزبيدية تجاور مكة والمدينة وبحر مصر ، وقد قدمت قبائل بني لام وريثة قبيلة طيء من العراق لنصرة أمراء المدينة في حروبهم مع أهل مكة . وقد جرّب الترك حكم الحجاز مباشرة وفشلوا ،لا سيما في تنظيم موسم الحج ، ونفرة العرب منهم[9] .

 

كذلك قامت دولة الزيدية في اليمن بما يقرب من حال قيام دول الشيعة الأخرى ، على يد شخص واحد يدعو بدعوة فكرية ، غالباً يكون مطلوباً للسلطات الرسمية . فكان الداعي في اليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن . وقد كان للزيدية شروط في الامام الذي يبايعونه للسلطان لا يجوزون مخالفتها ، منها صلاحه الذاتي ، وهو امر حسن[10] .

 

 

 

لم تكن دول الشيعة مع كل ذلك لتسلم من الفتن وانحراف العقائد . فكان سحرة اليهود يدسون من خلال مجموعة من المنحرفين ممن اختلف اليهم أمثال المغيرة بن سعيد ما شاءوا من الظواهر المنحرفة . وكذلك محمد بن بشير – رغم انه من موالي بني اسد – الا انه اظهر من البدع ما يشابه دجل الدجالين في عصرنا حتى فتن الناس فادعى انه نبي فوق الامام , وقد كانت الناس على بساطتها تنبهر به , وحين أراد الخلفاء العباسيون قتله تحالف معهم , ثم قتلوه رغم ما صنعه لهم من عجائب[11] . وقد لعن الائمة المعصومون أولئك المنحرفين ممن شابه المغيرة وابانوا حالهم[12] .

وبين ارتباك التأسيس العقيدي والضغط السياسي الاموي والعباسي وبين وجود المندسين في صفوف الرواة من الشيعة من ذوي النفوس الضعيفة وبوجود عامة من الناس بعيدين جغرافياً عن مراكز الامامة او بعيدين عن استيعاب المطالب العلمية كان لابد من ظهور الفتن بين الناس . ومنها انقسام المجتمع الشيعي بعد وفاة الامام جعفر بن محمد الصادق حول مصداق الامامة بعده , حتى امتحنوا ولده الأكبر عبد الله – الذي توفي بعد ابيه بسبعين يوما – فوجدوه لا يصلح لمطالبها[13] . وهي فتنة الفطحية الذين يقولون بإمامة عبد الله بن جعفر دون أخيه موسى بن جعفر[14] . وكان المتأثرون بها الكثير من اجلّاء المشايخ[15] .

وقد يستغرب البعض ان الكثير من مشايخ الرواة تأثروا بمثل هذه الفتنة , الا ان قدومهم من المنطقة الرمادية[16] او الخام بين عقيدة الامامة العامة وعقيدة الامامة الخاصة اربكهم , اذ لم تكن المطالب الاعتقادية قد نضجت بعد , لا سيما ان أبناء الامام كانوا في أحوال الصلاح جميعا .

ومع ذلك كله من انقسام الناس الا ان اصل تقسيم الفرق الإسلامية مبالغ فيه عموما , ففي كتاب ابن المفضل للمهدي العباسي – والذي قُرأ في مدن المسلمين – نجده يصنفها بأسماء الرجال وان كانوا متقاربين في الفكر[17] . وقد كان من أسباب الارتباك ايضاً ما يفتريه رواة الحديث من العامة عن لسان اهل البيت وهو لم يصدر منهم , فكان يشيع بين الناس دون استطاعة التحقق من مصدره بالسرعة المطلوبة لعدم وجود وسائل التواصل المناسبة حينذاك , كما في حديث سفيان الثوري ونقله عن لسان علي بن ابي طالب وجعفر بن محمد لأهل البصرة وغيرهم[18] .

 



[1] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٧٨ – ٨١

[2] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٩٢

[3] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٩٧ – ٩٨

[4] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٩٨ – ١٠٦

[5] . تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٢٢ – ١٢٦

[6] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١١٨

[7] لهجة بني عقيل / د . عادل محمد عبد الرحمن / جامعة بغداد – كلية الإدارة والاقتصاد / ص ٢

[8]اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 215 ح 12   

[9] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٣١ – ١٤٢

[10] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٤٢ – ١٤٤

[11] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 402 – 404

[14]اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 467 ح 1   

[15]اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 465 ح 1  

[16] اختيار معرفة الرجال \ ص 487  الى زمن الامام الرضا كانت الروايات مختلطة بين الخاصة والعامة كما ينقل الراوي الكبير محمد بن ابي عمير \

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموسوعة المعلوماتية عن مدينة الناصرية .. مهد الحضارة ومنطلق الابداع

اعلُ هُبَل

السوط البكتيري وقَبْليات العلم الإلحادية