ثورة الفكر العالمية \ الحلقة الأولى

 


 



 

 

الامة الإسلامية تقدمت طيلة وجود المعصومين الأربعة عشر كما هو واضح , ثم من منتصف العصر العباسي وعند غياب المعصوم بدأت بالتشظي , لكنها حافظت على شيء من تقدمها العلمي والحضاري بوجود زخم الدول الشيعية في اصقاعها , ثم انهارت حضارتها بتغلب الدول التركية عليها . مما يكشف عن دور كبير للمعصومين وشيعتهم في بنائها دون ان تبينه الأقلام السلطوية الرسمية .

حيث نجد انه بعد نجاح الدم الحسيني في تحريك عاطفة الناس باتجاه اهل البيت , وقدرة الامام السجاد على إعادة توجيه البوصلة الأخلاقية للامة , ان الامام محمد بن علي الباقر يبقر العلم بعد ان عرف الناس معدن اهل البيت وادركوا حاجتهم اليهم وبعد اضمحلال المدارس على يد بني امية بالقتل والتهجير . فراح يؤسس للعلوم الاسلامية بعد ان اراد دعاة بني امية مسحها , وحضرت بين يديه مختلف الشخصيات العلمية والفقهية في الامة , فقد نقلوا عن الحكم بن عتيبة[1] انه كان بين يدي الباقر كأنه صبي بين يدي معلمه . وممن روى عنه من فقهاء العامة كيسان السختياني الصوفي وابن المبارك والزهري والاوزاعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر النهدي . وصار يحتج على الخوارج - الذين قصدوه مناظرين بزعامة عبد الله بن نافع بن الأزرق - في علي بن ابي طالب بمحضر ابناء المهاجرين والانصار ليعيد ترتيب الأوراق العقائدية من خلال تنشيط ذاكرة الأنصار الروائية . وقد بلغ من شياع علمه ان قصده المسلمون من بقاع الأرض , مثل اهل خراسان . وكان يعيد ترتيب الأوراق الذهنية للفقهاء الكبار مثل قتادة بن دعامة فقيه اهل البصرة . وفي حواره مع عبد الله بن معمر الليثي حول حلية المتعة لم يكتف ببيان حكم المسألة , بل أراد إعادة ترتيب ذهنية الفقهاء واخراجهم الى التمييز بين حكم الله ورسوله وبين نهي عمر , وهي نقلة نوعية في فكر الامة حينئذ . وكان من الطبيعي ان يلتف حول الامام الباقر أبناء قبائل اسد وعجل وشيبان والازد ومواليهم من النبط , مثل ابي بصير الاسدي وبريد بن معاوية العجلي وليث بن البختري المرادي وال اعين موالي شيبان , وغيرهم من أبناء بعض القبائل . ولذلك لا غرابة ان يلازمه الشاعر الكميت الاسدي . وان يظل يروي عنه أمثال ابي نعيم النخعي[2] . وقد بلغ من قوة الامامة في عهده بين الناس ان الوصية لمن بعده وهو جعفر بن محمد الصادق احتاجت ان يشهد عليها من كان من قريش في المدينة حتى لا ينازع فيها[3] .

لذلك تمكّن ولده الامام جعفر الصادق ان يفجّر ثورة معرفية تعيد بوصلة الحق العامة وتحيي معالم الاسلام وتنشر الدين كما علّمه علي بن ابي طالب . بما روى عنه اكثر من أربعة الاف من ثقاة الرواة , وبما سمع من حديثه كبار علماء الامة على مختلف مذاهبها , ولم يُنقل عن غيره ما نُقل عنه كما جاء عن ابن حجر وابن شهراشوب والمفيد .

وكان من زخم هذه العلوم ان اضطر خصوم اهل البيت وأصحاب الدعاوى ان يردوا عليها , فكان ذلك يوسع تلك المطالب ويزيد بيانها فتتفجر المعرفة . وقد اضطر أئمة المذاهب الإسلامية ان يشهدوا للصادق في علمه , ومنهم مالك بن انس وأبو حنيفة وابن ابي ليلى وعبد الله بن المبارك , الامر الذي دفع المزيد من العامة اليه ومنهم شيخهم سفيان الثوري الذي اخذ منه في المجال الأخلاقي الكثير .

ووجود تسعمائة شيخ في مسجد الكوفة يحدثون بحديث الصادق ويروون عنه باسمه او يكنونه[4] كان يعني غلبة التشيع في الكوفة والجهر به . فراح يؤسس للمكتبة العلمية والإسلامية في مختلف العلوم الطبيعية والدينية ويؤصل للمعرفة . حتى انه بيّن الكثير من حقيقة العوالم المحيطة والخفية لمّا رأى الزمان مناسبا . وكان يحيط به بنو اسد والنخع وعجل وشيبان ومواليهم والنبط مثل ال اعين وابي بصير وال دراج وبريد بن معاوية وهشام بن الحكم[5] وغيرهم كثير, حتى ان الامام الصادق حين غاب عنه احد النبط افتقده وسأل عنه . حتى ان تفسير عبارة ( إحياء امر اهل البيت ) كان مصداقه أولئك العلماء من الرواة بحسب حديث الامام الصادق[6] . لا سيما مع دعوة الامام لنشرة عقيدة الإسلام برواية اهل البيت في مختلف العالم[7] . بل كان اوثق الستة من أصحاب الصادق جميل بن دراج وهو نخعي , وعبد الله بن مسكان وهو مولى لعنزة من شيبان , وعبد الله بن بكير مولى شيبان , وحماد بن عثمان من موالي الكوفة , وابان بن عثمان الأحمر مولى الازد , بالإضافة الى حماد بن عيسى الجهني الكوفي . ومن الواضح ان جل أصحابه من اهل العراق العرب والموالي لاسيما بني اسد ومواليهم ومن الانصار . فيما كان احد مواليه من السند[8] , وهذا لا شك أوصل فكر الامامة الى ارض هي ابعد من العراق . حتى ان افقه أصحابه من الستة الاوثق كان جميل بن دراج النخعي[9] وهو عراقي . حتى ان أبا جعفر المنصور العباسي اقر ان الصادق امام العراق يجبون اليه أموالهم , وهو دليل استقرار التشيع في العراق حينئذ . وفي زمانه تم توثيق الاصول الاربعمائة عند الشيعة الامامية لوجود من يحملها وحاجة الناس اليها , لا لضعف تلك المرحلة سياسياً فحسب كما هو الشائع . بل ذلك الزمان السياسي لم يكن زمان الصادق , لهذا رفض إجابة دعاة خراسان حين اتوه في ثورتهم على بني امية , فأهل خراسان بقيادة ابي مسلم وابو سلمة الخلال لم يكونوا من شيعة ال محمد ولم يعرفوا مقامهم الحقيقي , وانما كانوا بعد خروجهم على بني امية لا يرون في الامة من يتفق عليه الا زعماء بني هاشم , ودليله انهم جعلوا الامر بينهم وبين بني العباس وبني الحسن ولم يأتوا الامام الحق بعينه . ولما كان الزمان السياسي ليس زمانه أوصى جعفر بن محمد الصادق الى خمسة , منهم أبو جعفر المنصور الخليفة لما علمه من نيته قتل الامام الموصى اليه بعده , وادخل في الوصية ولديه الأكبر عبد الله وكان ذا عيب والامام لا يجوز العيب فيه عند الامامية , وموسى الكاظم وهو الأصغر سناً وهو الامام بعده , والى زوجته ليضلل بها السلطة[10] . وهو ما فعله السيد الشهيد الصدر في وصيته اقتداءً بالإمام الصادق . وقد كان أبو عبد الله الصادق يتخذ التدابير لنشر العقيدة المحمدية من خلال بث الرجال من زمان ومكان قريب الى اهل البيت للتهيؤ لزمان ومكان ابعد واقل معرفة بهم , بل عمد الى عيب زرارة كما عاب موسى وصاحبه السفينة حفظاً لها من الظلمة ليتسنى للناس المعاندين الاخذ عن زرارة اذا علموا ان الائمة نقدوه , وقد كان اهل النصب من العامة لا زالوا يشيعون بغض اهل البيت سرباً من زمان بني امية رغم الضعف السياسي حينذاك[11] . فيما كان بعض أصحاب الائمة من الوجوه الاجتماعية وكان ذلك يساهم في نشر عقيدة اهل البيت , كما هو حال ال دراج النخعيين في الكوفة[12] . ويشترك النخع بقيادة سليمان بن خالد في ثورة كبرى هي ثورة زيد الشهيد وهم يقرّون تمام الإقرار بإمامة جعفر بن محمد الصادق[13] , وهذا يعني انهم اصبحوا مفصلاً اجتماعياً وسياسيا .

 

لم يجد الشيعة زماناً سهلاً يسيراً في تاريخهم ، بل هم من صنعوا التاريخ الخاص بهم بالجهد والعلم والدم التضحوي . حتى حين انفرط عقد بني امية وجاء بنو العباس الذين كانوا من بني هاشم وقامت دعوتهم على طلب الرضا من ال محمد ، اذ نكث العباسيون عهدهم وكانوا أشد زماناً على الشيعة بعد زمان معاوية والحجاج . فهذا خليفتهم أبو جعفر الدوانيقي اول من اشاع من العباسيين فكرة كفر ابي طالب ليرفع من مقام جدهم العباس بن عبد المطلب . بل ان بني العباس اول من استخدم الاحتجاج الفكري عملياً ضد الأئمة من أولاد فاطمة بنت محمد ، لما وصلوا الى السلطة واعتزوا بالملك ، وحقداً منهم على بني الحسن بن علي الذين كانوا دائمي الثورة ، وحسداً لمقام الأئمة من ولد الحسين بن علي بين المسلمين . ولم يكن هذا الاحتجاج شريفا , بل مصحوباً بالعنف والدم , اذ اخذ احد خلفاء بني العباس  - الذين يقربون العرّافين والمنجمين خلافاً لأوامر الشريعة[14] - اكبر واهم رواة الشيعة في زمان الامام الرضا وهو محمد بن ابي عمير وضربه على التشيع وحبسه , حتى دفع 121000 درهم أي ما يعادل نحو مليارين وخمسة ملايين وسبعمائة الف دينار عراقي في الزمن الراهن فاطلق سراحه . ثم اخذه الخليفة العباسي الاخر وربطه بين عقارين ( نخلتين ) ليقرّ بأسماء الشيعة في العراق وجلده مائة جلدة وسلب املاكه واخذ من ماله 100 الف درهم بما يعادل نحو مليار وسبعمائة مليون دينار عراقي في عام 2020م[15] . وقد ابتدأت في عهدهم حمى الاحتجاج الفكري ، بعد ان اقتصر بنو امية قبلهم على الذبح[16] . الا ان هذه الاحتجاجات لم تكن في صالح بني العباس مطلقا . وقد يظن من يقرأ تاريخ ما جرى من انقلاب بعد رسول الله محمد من قتل وتشريد وسلب وملاحقة وتجويع لذريته وشيعتهم دون ان يعرف ما جرى لاحقاً ان هذه الطائفة لم تقم لها قائمة . لكنّ الحقيقة ان الذي جرى معجزة رسالية اذ انتشر الشيعة بعلومهم في مختلف بقاع الأرض وغلبوا بعقيدتهم كل الماكنات الإعلامية للسلطة الغاصبة لحقوق ائمتهم ، حتى ظهور دولة السلاجقة .

لقد كان الشيعة يملكون من الاحتجاج ما عجز عنه خصومهم ، وكانت اغلب دولهم تنطلق بجهود شخص واحد من ال محمد . فهذا الشريف ادريس من ال الحسن يصل المغرب ويؤسس الدولة الإدريسية بجهود دعوية فردية ، حتى انضمت لها القبائل البربرية الكافرة التي لم تدخل في الإسلام من قبل ، بالإضافة لجموع من المسلمين . رغم كونه رجلاً هارباً من بطش سلطة الخلافة ، فكيف اذا تسنت لآل محمد حرية الدعوة . وقد ساعده على الوصول الى هناك صاحب بريد مصر للعباسيين المسكين مولى صالح بن منصور الذي كان شيعياً أيضا . اذ اجتمعت لإدريس – وهو فرد واحد ما معه سوى مولاه راشد – قبائل البربر زواغة ولواتة وسدراتة وغياثة ونفرة ومكناسة وغمارة ، يبايعونه على الطاعة طوعاً لا كرها ، وأسلمت على يديه قبائل كانت على اليهودية والنصرانية وباقي الأديان ، مثل قندلاوه وبهلوانة ومديونة ، وبذلت له أمراء قبائل يعرب ومغراوه وزناتة الطاعة . وكان كل ذلك طوعاً بالحجة واللسان ، وهو امر لم يجر الا على يد الشيعة غالباً . حتى ان الأغالبة حين سموا ادريس وقتلوا مولاه راشد غيلة نيابة عن العباسيين أصرت قبائل البرابرة على انتظار ولده ادريس وهو حمل حتى يكبر ليبايعوه رضيعاً ثم طفلاً ثم شابا ، وكذلك فعلوا . الامر الذي يكشف مستوى قناعتهم بدعوة هذه الاسرة رغم انتشار دعاة العباسيين وولاتهم في كل العالم . ولو كانت هذه الدعوة بالسيف لما استقام امرها يوماً واحدا . وقد استعان ادريس بمساعدين عرب من الازد والخزرج . وقد بنى المساجد ودور العلم وبنى المدن ونشر الأمان في عموم المغرب الإسلامي[17] .

 

 

 

 

 

يتبع ...

 

 

 



[1] وهو من يصفه الذهبي في سير اعلام النبلاء في الطبقة الثالثة بأنه : الأمير الكبير عالم اهل الكوفة , وينقل عن سفيان بن عيينة انه ما كان في الكوفة مثل الحكم , وعن مجاهد بن رومي انه ما عرف فضل الحكم الا حين رأى علماء الناس في منى عيالاً عليه .

[2] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 303 – 304  \ بل ان أمثال سليمان بن خالد النخعي يخرج في ثورة مهمة مع زيد بن علي وهو يسلّم تماماً بامامة جعفر بن محمد الصادق \

[3] اعيان الشيعة 1 \ ص 651 – 659

[4] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 273

[5] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 219  وهو مولى لقبيلة كندة \

[6] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 126 ح 12

[7] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 289

[8] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 284

[9] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 316

[10] اعيان الشيعة 1 \ ص 661 – 677 

[11] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 128 – 131 

[12] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 216 ح 2

[13] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 303 – 304

[14] ال نوبخت \ ص 31

[15]اختيار معرفة الرجال \ ص 487 – 488    

[16] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٨ – ٩

[17] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١١ و ١٦ و ١٧

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموسوعة المعلوماتية عن مدينة الناصرية .. مهد الحضارة ومنطلق الابداع

اعلُ هُبَل

السوط البكتيري وقَبْليات العلم الإلحادية