تكسير قواعد استلاب الدين
تكسير قواعد استلاب الدين
علي الابراهيمي
يبتدأ بعض منظري العلمانية مناقشاتهم على
الإسلام بعبارات ومقدمات خاطئة ، حين ينسبون مثلاً فكرة ( ان الإسلام دين ودولة )
للمصري ( حسن البنّا ) ، والواقع انها عبارة دينية سماوية لا شأن لوجود او عدم
وجود حسن البنّا بوجودها . ففضلاً عن انّ نبي الإسلام ( محمداً ) عليه وآله السلام
قد اقام دولة فعلاً ، وهو اعرف بدينه ، وان أصحابه – ولا شأن لنا هنا بنوعيتهم
الحقّة او الانقلابية – قد أقاموا دولة ايضاً ، وهم اقرب الناس لفهم رسالته ، وان
اوصيائه من الائمة ثبّتوا حاكمية الإسلام نظرياً ، فانّ القرآن – الذي هو المصدر
النصّي الدستوري للإسلام – يقول ( ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون )[1]
، و ( وكتبنا عليهم فيها انّ النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالأنف والاذن
بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدّق به فهو كفّارة له ومن لم يحكم بما انزل
الله فأولئك هم الظالمون )[2]
، ( وليحكم اهل الانجيل بما انزل الله فيه ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم
الفاسقون )[3]
. لذا ليس الوقت الذي ابتدأ فيه حسن البنا حركته هو الوقت الذي صارت حاكمية
الإسلام شعاراً للامة الإسلامية ، بل كان وقت هذا الشعار يوم أسس النبي دولته ،
وكذلك يوم نادى علي بن ابي طالب بمرجعية رقابية دينية عليا للسياسة الدنيوية
للخلفاء بعد النبي ، ويوم ثار أبو ذر الغفاري بوجه طغيان العائلة والاحتكار
الدنيوي حتى نُفي الى الربذة ، ويوم ثار الأنصار في المدينة على دنيوية يزيد بن
معاوية المحضة في واقعة الحرّة ، ويوم استشهد الحسين بن علي رافضاً الحاكمية
الأموية الدنيوية .
اما الخطأ الاخر المهم الذي ينمّ عن انقطاع
معرفي لهؤلاء العلمانيين فهو ظنّهم ان المسيحية لا تقوم على حاكمية الدين السياسية
، وبالتالي قد لا يختلف الإسلام في جوهره عنها . وهم هنا يخلطون بين الظروف
الموضوعية التي جاءت المسيحية في سياقها التاريخي ، حيث ان رسالة السيد المسيح
كانت في جوهرها اعلاناً الهياً لسحب الراية الايمانية من اليهود ونقلها لمجتمع
جديد اكثر أهلية هو مجتمع ( سبأ) . وهذا ما يثبته اللقاء الأخير للسيد المسيح
بالناس والكهنة في الهيكل (
لذلك اقول لكم ان ملكوت الله ينزع منكم و يعطى لامة تعمل ثماره )[4] . لذا لم يكن السيد المسيح عليه السلام ينوي إقامة دولة
بقدر ما كان يسعى لحاكمية دينية اكثر شمولاً وصلاحاً ، تمثّلت لاحقاً بالإسلام ،
الذي كان المجتمع السبأي والمسيحيون احد اهم ركائز دولته .
ويفترض البعض الامكانية المنطقية لتأويل كل نص
في الإسلام ، وبالتالي لا معنى لقاعدة ( لا تأويل بوجود نص ) ، ليسير من خلال ذلك
لغايته في مناقشة النصوص التي يستعين بها المسلم لإثبات حاكمية الدين السياسية .
ومثال ذلك أننا ملزمون بمناقشة تلك النصوص للوقاية من امر معارضتها لاعتقاد المسلم
الأساسي القائم على وحدانية الله وكلية صفاته . ان هذا الافتراض مغلوط بثبوت النص
، لان المرجعية التفسيرية للنص هي ظاهره ، ومن ثم لا يمكن للعقل تصور وجود نص ثابت
يتعارض مع الوحدانية .
ومن المقدمات السابقة ننطلق نحن لمناقشة هل ان
العلاقة بين الإسلام والسياسة علاقة مفهومية ام تاريخية ؟ بمعنى هل اقتضت الظروف
التاريخية إقامة دولة للنبي ، باعتبار انه لولا الهجرة للمدينة لبقي القران كتاباً
طقسياً فقط ، ام ان العقيدة الإسلامية هي التي تتضمن ضرورة إقامة دولة دينية ؟
ان الجواب ينبغي ان يلاحظ ان الله لا تحركه
الظروف في ارادته ، بل ان القدرة على تنفيذ مشيئة الله من قبل الانسان هي المحكومة
للظروف الواقعية والعملية ، وهذا ما ينطبق على الظاهرة المسيحية ، فهي وان تضمنت
ذات الماهية العقدية مع الإسلام ، الا ان ظرف الانسان التاريخي لم يكن ناضجاً
لتأصيل سياسي ديني ابدي ، بمعنى ان تلاميذ المسيح لم يكونوا قادرين على اداء الدور
الذي قام به الائمة من آل محمد ، ونحن هنا نتحدث عن الإسلام النقي لا الانقلابي
الذي هو علمانية مقنعة ومقيدة .
وهنا قد نجد اشكالاً يقول لو كان الله ناظراً
لظروف الانسان التاريخية في امضاء الحاكمية ، لماذا لا يكون ناظراً لذات الظروف في
قضايا التشريع ، لا سيما مع تغيّر العصر والناس ؟ والحقيقة ان التشريع ينطلق من
منطقة مثالية للقيم ، هي المنطقية المعيارية ، التي لا يستطيع الانسان لوحده
بلوغها ، لذا فهي أصيلة في كل زمان ، اما التطبيق لهذا التشريع فيخضع لمبدأ الرفق
بالإنسان ، من حيث التدرج مع مراحل نضوج عقله .
ان القصة التاريخية تخبرنا ان مهمة الأنبياء
السابقين كانت منصبّة على ضرورة إنقاذ وتأهيل الكم الأكبر من القادرين على توليد
عقل جدلي يسمح باستيعاب ضرورة تطبيق الشريعة الإلهية . فلا يُعقل ان نأتي لمجتمع
يعتقد ان الامبراطور ابن الله بعقيدة تلغي الامبراطور ، ما لم نثبت لهذا المجتمع
حقيقة ما عليه اعتقادهم من خطأ اولاً . بمعنى ان التشريع لن يعاني مشاكلاً عملية
اذا طبّقه الانسان في أي زمن ، لكنّ الإقرار بضرورة التطبيق هو من سيعاني مشاكلاً
استيعابية . او لنقل ان التشريع جانب عملي ، يضمنه تماميته ، اما الاعتقاد بضرورته
فجانب نظري يحتاج الى تدرّج معرفي في قبوله الاختياري .
لذا لم يكن التشريع الإسلامي موجهاً لفرد يحمل
سمة قومية هي ( الإسلام ) ، لأنه لم يكن حين نزوله من فرد بهذه السمة اصلاً ، اذن
فافتراض بعضهم لهذا الامر سالب بانتفاء الموضوع ، بل هو موجّه لمن يحمل سمة العقل
الجدلي القادر على حمل وتطبيق رسالة إلهية ، بكل ابعاده وأبعادها . ومنه يكون (
الدين عند الله الإسلام )[5]
.
ولانّ الإسلام – كعقيدة وتشريع – هو نتيجة سياق
تاريخي لنضوج العقل البشري ، من خلال جهود الأنبياء السابقين ، لا كنتيجة للسياق
التاريخي السياسي ، ف ( من يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه ) . من ثم لا
يمكن لاحد اعتبار ان الله قد خالف الضرورة عندما امر المسلم بتطبيق الشريعة
كحاكمية ، لأنه افتراض يقوم على افتراض اخر غير مثبت اساساً يقول بان الشريعة
مخالفة لمصالح الانسان مع تغيّر الزمن ، وهو انقياد غير موضوعي وغير علمي للعاطفة
العلمانية ، إذ يحتاج هذا الافتراض للثبوت كي يثبت ما يُبنى عليه من افتراضات ،
وهذا ما يحتاج الى الإحاطة بمعرفة معيارية وشاملة بكل عالم الإمكان ، وهو امر
مستحيل .
ان الاطلاق الذي تعيشه النصوص الدينية لا يمكن
تقييده زمانياً او مكانياً الا بدليل ، ولمّا كان دليل أولئك العلمانيين هو رأيهم
واستحسانهم فلا قيمة علمية له . ثم أننا لو تنزّلنا وذهبنا معهم إلى إمكانية تقييد
هذا الاطلاق الزماني والمكاني للنص الديني ، فمن هي الجهة التي لها حق التقييد ؟
هل هي المنظومة العلمانية ؟ ام الناس ؟ ام رجل الدين ؟ ام الله ذاته ؟ ووفقاً
للاعتبارات السالفة لا يمكن هذا الحق الا لله ، لذات الأسباب التي بمقتضاها انزل
الله الشريعة للمرة الأولى ، فلا معنى ان ينزلها لزمان او مكان دون آخر . واذا كان
رأي هؤلاء صحيحاً في كون الانسان هو من يحدد واجبه الفعلي وفق مقتضى مبدأ أخلاقي ،
هو برأيهم مستقل عن المعرفة الدينية ايضاً ، فلا حاجة عقلائية لنزول الشريعة
السماوية من الأصل ! . ان هؤلاء دون نفيهم للنبوة بالمطلق سيعيشون تناقضاً منطقياً
كبيرا .
وان هناك احكاماً شرعية لا يمكن القول بنسبيتها
الزمانية او المكانية ، فما الذي سيفعله هؤلاء العلمانيون حينئذ ، من اين سيجدون
لها تأويلاً سوى الافتراض غير المنطقي ، كما في مثالهم عن ( حرمة لحم الخنزير ) ،
الذي هو محرم لذاته ، فهل سيبدو لله علم حليته لاحقاً لان بعض بني الانسان رأى ان
لا بأس به .
اما قراءة هؤلاء لأقوال بعض المفكرين
الإسلاميين بما مضمونه ( لا اجتهاد مقابل النص ) بانها تتعارض مع قولهم ( ان
الأحكام تحقق المصلحة والمنفعة البشرية ) ، لان مقتضى ذلك كون الأحكام مشتقة من
مبادئ اعلى واشمل هي من ينبغي ان تكون له الحاكمية لا النص ، إذ قد تتغير المصالح
فكيف تثبت الأحكام مع النص ؟ وجوابه ان معرفة هذه المبادئ الأعلى والاشمل تحتاج
الى من هو اعلى واشمل منها أيضًا ، والى من هو غير متحرك او متغير معها ، ليتسنى
ملاحظتها ، وهو الله أيضا .
وقد تكون هناك نصوص مطلقة تقتضي اطلاقاً مشتقاً
منها حتى ثبوت خلافه ، كما هو قوله تعالى ( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[6]
، والرسول امرنا باتباع العترة والقرآن ، ولم يحدد فترة صلاحية لهذا الاتّباع ، فكيف نبني منظومة سياسية
خارج هذا النص [7]؟!
. اما استشهاد بعضهم برؤى مفكري المدرسة الانقلابية من كون الإسلام ترك لهم فسحة
سياسية ، فقد كان متعمداً ، لأنهم يعلمون ان أولئك الانقلابيين يعانون انقطاعاً
وفراغاً في منظومة المعرفة الدينية لديهم ، لانقطاعهم عن اهل البيت عليهم السلام ،
فالقرضاوي والغنوشي وغيرهم يعيشون تناقضاً نظرياً كما يعيشون تناقضاً عملياً ، لا
تقلّان عن تناقضات العلمانيين انفسهم .
غير ان هذه الحقيقة لا تمنع ان يصل البشر
بعقولهم النسبية الى مشترك او موافقة لأحكام وقواعد الإسلام بالتدريج ، لان
ارتكازيتهم الأسسية ( الفطرة ) – وهي غير المعرفة – مستندة في أساسها للعقل الأول
، الا انها تحتاج الى التجريد للإفلات من حبس المادية . لكن هل العقل الأول هو شيء
غير الله ؟ كلا ، هو يستقي من العرش ، و ( الرحمن على العرش استوى )[8]
.
ان المفارقة الحقيقية هي ان يرى أولئك
العلمانيين ان المنطق يستدعي انه اذا كانت مبادئ الإسلام كونية فلا ينبغي ان تكون
له احكام عملية ، لان الأخيرة نسبية بنظرهم . ولا نعرف ما قصد هؤلاء بكونية مبادئ
الإسلام ، هل بمعنى انها موجهة لعموم الكون الغير ناطق ، فحينئذ لا يكون من داع
لوجود النبوات ، فما على الله الا تقنين هذه المبادئ بنحو فيزيائي ، اما اذا كانت
هذه الكونية بمعنى العالمية ، عندئذ يجب ان تجد لها واقعاً عملياً عاقلاً ، والا
لم يكن لها من داع معرفي . الا ان يقول بعض العلمانيين ان هذه الأحكام العملية
كانت تناسب زماناً ومكاناً ما ، وهو رأي مزاجي لا دليل عليه لا قبلي ولا بعدي ، بل
لا معنى عقلاني له .
لذا لا يعني عدم تمكن دين من الأديان التوحيدية
من إقامة حاكمية سياسية سقوط هذه الحاكمية ، ف ( الحسن والحسين إمامان ان قاما وان
قعدا ) ، ولا يعني ذلك قطعاً انهما تركا تفعيل حاكمية شرعة الرب ، بل الناس هي من
تركت في الغالب هذه الأوامر واخترعت حاكمية غير مؤمنة او واثقة بأحكام الرب ،
تعالى الله عما يصفون .
ولا غرو ان يعيش هؤلاء المنظرين العلمانيين
تناقضاً عند قولهم بوصف واحد ( ان المبادئ المعيارية ليست إسلامية ، وانما مشتركة
بين جميع الأديان التوحيدية وغير التوحيدية ، وان الدولة التي تقوم عليها ليست
إسلامية ، وانها غير منتجة للمنظومة السياسية او الإدارية ، كما ان العقل البشري
النسبي يمكنه الوصول اليها ) ، وقد ذكرنا سابقاً ان هذه هي فكرتهم التي أرادوا بها
استلاب الدين ، بالقول انهم – كعلمانيين - يستطيعون تأسيس منظومة أخلاقية مستقلة .
فكيف يؤسسون على هذه المنظومة ( المعيارية ) منظومة سياسة لا علاقة لها بها ! ،
الا اذا كانت نيتهم – مع إهمال التناقض
الفكري بينهم – ان يقيموا منظومة سياسية وإدارية لا سقف أخلاقي لها ، الا المزاج
والاستحسان . ولا نعرف كيف يكتب هؤلاء ليعترضوا على مبادئ الإسلام الأخلاقية ، ثم
يظهر لاحقاً من كلامهم ان هذه المبادئ ليست إسلامية ! . كما لا ندري ما وجه
الاعتراض على الدين في إتيانه بمنظومة تقوم على مبادئ هي ذاتها ما سيصل اليها
العقل البشري بالقياسات المنطقية بحسبهم ! .
[1] سورة المائدة
/ 44
[2] سورة
المائدة/ 45
[4] الكتاب
المقدس/ متى / 21 : 43
[5] سورة ال
عمران / 19
[6] سورة الحشر /
7
[7] ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا
بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض وعترتي أهل
بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) و ( من كنت
مولاه فعلي مولاه ) والقرآن يقول ( النبي أولى بالمؤمنين من انفسهم ... كان ذلك في
الكتاب مسطورا ) ( سورة الأحزاب 6 ) .
تعليقات