الاثار المادية للانهيار الروحي
( وقد حثّنا الله تبارك وتعالى على أن نتعامل بيننا –كإخوة مؤمنين- بهذا الأسلوب، قال تعالى: " وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "، أي لا تنسوا معاملة الاخرين بالتفضل والتسامح في كل المعاملات والعلاقات ففي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: " رحم الله عبداً سَمِحاً إذا باع، سَمِحاً إذا اشترى، سَمِحاً أذا قضى، سَمِحاً أذا اقتضى " ، ولما كان الجزاء يوم القيامة منسجماً مع سلوك الإنسان وعمله في الدنيا، فإن كان متسامحاً في تعامله مع الناس حوسب باليسر والكرم، وإلا شدد عليه مقاصة له لأنه التزم بهذه الطريقة من التعامل في الدنيا، قال تعالى: " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً " ، وفي مقابلهم أصحاب الشمال " فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً " ).
اكاد اجزم ان للشيخ اليعقوبي في هذا المقطع من كلمته مراداً عملياً للسلوك الإنساني الراهن في عالم الدنيا ، حيث يمكن للإنسان ان يكون من اصحاب اليمين هنا ، كما يمكنه ان يورط نفسه في اصحاب الشمال كذلك ، فللإنسان وجودان ، احدهما إيجابي والآخر سلبي ، بالله وفي الله ولله ، او بالشيطنة وفي الشهوانية وللانانية .
ان الانسان يسلك سلوك المثال الذي اختاره لحياته ، ان خيراً فخير ، وان شراً فشر ، وهو بهذا يحدد علاقاته ومدى تفاعله الإيجابي او السلبي في المجتمع الإنساني . الله تعالى غني عن العالمين ، وهو لا يجعل إنساناً ما في اصحاب اليمين لمردود يرجع اليه وهو الخالق ، بل لأنّ هذا الانسان أعطى لاخيه الانسان ما يساعده في مسيرته الدنيوية باتجاه الله . فالعفو كان قريباً للتقوى - التي هي الخوف من الله والمسارعة اليه - لأنّ به انتفع إنسان اخر أراد الله له الحياة مع أخيه الانسان ، من هنا قال القران الكريم ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) ، فما من مال سيصل نفعه الى الله الغني ، لكنّ التكافل والتعاضد البشري هو الذي جعل الانسان المحسن - الى أخيه الانسان - في شعبة المتقين .
سوى انّ منشأ السلوك - الخيِّر او الشرير - يبتدأ من صورة المثال الذي انطبع داخل النفس البشرية ، او العالم الوهمي القائم في الذهن الإنساني . او بتعبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر ( المثل الأعلى الحقّ والمثل الفرعوني ) : الفرعونية على مر التاريخ حينما تتحكم في علاقات الانسان مع أخيه الانسان تستهدف تمزيق طاقات المجتمع ، تشتيت فئاته ، بعثرة امكانياته ، ومن الواضح انه في تشتيت وبعثرة وتفتيت وتجزئة من هذا القبيل لا يمكن لافراد المجتمع ان يحشدوا قواهم الحقيقية ، وان يجندوا كل بذور إبداعهم لكي تنمو نمواً طبيعياً في مجال التفاعل مع الطبيعة والسيطرة على الطبيعة . وهذا هو الفرق بين المثل العليا المنخفضة الفرعونية وبين المثل الأعلى الحقّ ، مثل التوحيد لله سبحانه وتعالى ، فإنّ المثل الأعلى يوحد الجامعة البشرية ويلغي كل الفوارق والحدود باعتبار شمولية هذا المثل الأعلى .
وقد قال الحكماء : ان الحكمة العملية مربوطة بالفعل الاختياري من ناحية الفضل والكمال ، ويعيدون الامر في النهاية الى النفس ، ويصرحون بأنّ لنفس الانسان كمالين : نظري وعملي . واكتساب حقائق العالم كمال نظري ، ومكارم الأخلاق كمال عملي للنفس ينميها ويوازن بينها وبين الجسم ، ويدعم ما لديها من كمال واقعي . وإذا اخذنا بهذا الرأي وصلنا الى اصل إسلامي كبير لم يقله الحكماء ، وهو ان الانسان يحس بالسمو بحكم ما لديه من شرف وكرامة ذاتيين ، وهما جنبة ملكوتية ونفحة الهية فيه من دون انتباه .
ومن هنا حين يخسر الفرد هذه القيم الربانية في تعاملاته العملية يكون تلقائياً في اصحاب الشمال ، الذين هم ( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ) ، حيث انتقلوا الى واقع البهيمية من خلال مثلهم الفرعونية الانانية التقاطعية .
وحينما ينهار المثال الخيِّر داخل النفس تنهار معه ركائز القيم ، فينتقل الانسان من انسانيته الى ساحة البهيمية ، التي قد يتجاوزها فيصير ظلاماً شيطانياً محضاً . وهذا الامر في الشباب اخطر لأنهم اكثر حماسة واندفاعاً ورغبة وحيوية ، فيجب لهذا صيانة عالمهم ودعم ركائزهم القيمية ، ( قوة الإرادة وتنفيذ ما يعزم عليه، ونجد كثيراً من الشباب يقوم بالمغامرات المهلكة ويرتكب الحماقات الجنونية لا لشيء إلا لأنه اقتنع بأمر وهو عازم على تنفيذه، وهو مستعد للتمرد والخروج على كل القوانين والأعراف، فيجب توظيف هذه الإرادة القوية فيما هو نافع ومثمر ) .
يعتقد الكثير من شبابنا انّ المنظومة الدينية لم تكن منتجة على الدوام ، وأنها غير قادرة على مسايرة العلم الحديث وأدواته ، كما انها لم تتضمن المفردات العلمية التي تثبت سماويتها ولم تسبق زمن الآلة الحديث بشيء ، وليس لها القدرة على إدارة الدولة الحديثة ، وأنّ النموذج الأكثر وضوحا للدين هو الفكر المتطرف .
انّ هذه الاعتقادات ليست مزاجية فقط ، وإنما هي وليدة عدة أسباب ، فالمشكلة الاولى التي تتهم المنظومة الدينية بعدم الانتاج ناشئة عن الانقطاع الحضاري والمعرفي بين الحاضر والماضي ، بسبب المرحلة الاستعمارية وما رافقها من تجهيل للناس ومن انحسار دور المؤسسة الدينية المعرفي الرابط بين الأجيال . اما المشاكل المتعلقة بقدرة الدين على مسايرة العلم الحديث وخلو مفرداته من دلالات علمية فناشئ عن ضعف المؤسسة الدينية في عرض المضمون العلمي المادي والطبيعي الذي تضمّنه النص الديني ، وهنا لا ادعي او اطلب جعل الدين جامعة للعلوم الطبيعية ، لكن أقول انّ المصادر والنصوص الدينية حفلت بالعديد من الإشارات العلمية ، التي يمكن لعرضها وبيانها ان يوجد ثباتا وثقة بقوة الدين ، كما انه يشكل دافعا وحافزا نحو النهوض العلمي والسعي لمنظومة علمية طبيعية مرتبطة بالمؤسسة الدينية ومتكاملة معها .
تأتي هذه الاعتقادات الشبابية ممزوجة بالدفع الغرائزي والغزو الثقافي والتوجيه العولمي ، فيحاول البعض الانفلات عن الرقابة ، من خلال محاولته الغائها كلياً فيسعى لنفي وجود الله وهماً ، ليتسنى له حرية الانفعال والفعل ، لكن لا على نحو فلسفي ، بل عبر دعاوى واهمة تستغل بعض النماذج الدينية المصطنعة او العاجزة .
ان الانسان هو أكرم ما في هذه الارض انه هو الكائن الأساسي فيها ، والمستخلف في مقدراتها ، وكل شيء فيها في خدمته - او ينبغي ان يكون كذلك - و ( انسانيته ) هي المقوم الأعلى الذي يقاس به مدى صعوده او هبوطه . وسعادة روحه هي مقياس ما في الحضارة التي يعيش فيها من ملائمة لطبيعته او مصادمة . فإذا رأينا ( الانسان ) ينحدر في صفاته ( الانسانية ) وفي تصوره للقيم الانسانية ، اذا رأيناه وقوداً للآلة او عبداً لها ، او تابعاً دليلاً من توابعها ، اذا رأيناه - تبعاً لهذا - ينحط في تصوره وذكائه وأخلاقه ، اذا رأيناه يهبط في علاقاته الجنسية الى أدنى من درك البهيمة ، اذا رأينا وظائفه الاساسية تتعطل وتذوي وتتراجع ، اذا يشقى ويقلق ويتحير ، ويعاني من القلق والحيرة ما لم يعانيه قط في تاريخه من الشقاء والتعاسة والامراض العصبية والنفسية والشذوذ والعته والجنون والجريمة ، اذا رأيناه هارباً من نفسه ومن المخاوف والقلاقل التي تلفه بها الحضارة المادية ، والانظمة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفكرية ، اذا رأيناه هائماً على وجهه يقتل سأمته وملله ، بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه ، من المكيفات والخمور ، او ما يشبه المكيفات والخمور من الأفكار السود ، ومذاهب اليأس الكابي والقنوط الملبس والضياع الاليم ، كما في ( الوجودية ) وغيرها من مذاهب الفكر التعيسة ، اذا رأيناه يئد نسله ، او يبيع أولاده ، ليشتري ثلاجات وغسالات كهربائية - كما جائتنا الأنباء عن أوربا الضائعة - ، اذا رأيناه في مثل هذه الحال النكدة ، فإنّ جميع ما يصل اليه ( العلم ) في معزل عن ( روح الانسان ) من تيسيرات للحياة المادية ، ومن رفاهيات حضارية ، لا يغير شيئاً من حقيقة الانحدار الذي تهوي اليه البشرية ، ومن حقيقة الشقاء الذي تعانيه ، ومن حقيقة التعاسة التي تزاولها ، ثم من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها ، ومن ثم حقيقة الحاجة الى نظام آخر اصيل ، بريء - في اساسه - من العيوب التي أفسدت حياة البشر ، وضيعت عليهم ثمار العلم والمعرفة والتقدم الحضاري ، نظام يسمح للانسانية بان تحقق غاية وجودها الإنساني .
ومن خلال وسائل ( القوى الناعمة ) والآلة الإعلامية تقوم المؤسسات الأخطبوطية الكبرى في العالم - بما فيها الدول الغربية المتقدمة والحكومات الظالمة - بعملية تخدير والهاء لأجل ابعاد الناس عن المصالح العامة وعن واقعهم وعن مشاكلهم وترك الاحتجاج والمناقشة وخاصة التغافل عن البلاء الوارد علينا من جانب الغرب نفسه . فيوحي الاعلام الغربي للمشاهد ان القيم الاخلاقية والأعمال الصالحة لا جدوى منها وهي مجرد حبر على الورق ، ومن ثم تحشر بعض الاّراء الفاسدة على السنة الممثلين الذين تعطيهم مكانة مرموقة كالطبيب او العالم او السياسي ، وترسل هذه الأفكار الى المشاهد فيتقبلها ويتعبد بها دون ان يعرف ما هو مصدرها او لا يشعر بمدى خطرها على عقيدته . وصارت الصورة اداة للتلاعب ، والإرباك القهري الذي يسلب العقل إمكانيته على التحليل والوقوف على الخطأ ، ويجعله يجيب عن الأحداث عبر مجموعة من النقاط المسبقة التي صُنعت في عقله ، فالاسلام متوحش من اول الامر ، وعنيف ، وغاية في التخلف ، والغرب بريء دائماً وهو الذي يصنع الخير دائماً ، وقوى الشر تريد الإطاحة به دائما . فما صفته مزري ومنحط يتحمله الاسلام عبر ممارسات الإسلاميين مثلاً ، دون ان تتحمله الايادي العابثة في القوانين الدولية او المخترقة للثقافات او التي تُمارس سياسة متوحشة في الاستلاب الثقافي للاخر ومحاولة إلغائه عبر الأدوات الذكية او البرامج الناعمة . ومن هنا يبدأ الشباب مرحلة من الضياع والتشتت الفكري ، ترفدها الحاجات الغرائزية والحماسة وفقدان المثل بالطاقة اللازمة للانفجار العشوائي ، فيشهد الشاب فترة من العداء للذات والبغض للإرث والشبيه ، تجعله في خانة المواجهة ضد الوطن ، وهو يرى انه في المنطقة الصواب ، فيما ان الحقيقة تتلخص في افتقاده حينها للنفس والشخصية الثقافية ، وتحوله الى جماد بلا ملامح تستخدمه وسائل التلاعب لتشكيل كائن جديد نافع لمشاريعهم فقط .
ولتبدأ لاحقاً حركة مهاجرة شابة نحو الغرب ، متصورة انها بتخليها عن إرثها وثقافتها وهويتها أصبحت جزءاً من المجتمعات الغربية ، او انها ستجد الاحترام الذي يحقق لها رغباتها ، لكنها ستكون في الواقع كالداخل في منظومة الدين اليهودي المعاصرة ليس يهودياً مقبولاً ولا غيراً محترما . وستعاني هناك مرحلة إثبات الذات التي لن تكون منتجة لسببين : ان الغرب يجعل دونية المجتمع الشرقي معيارًا ثابتاً بغضّ النظر عن انكسار الفرد عن شرقيته ، والثاني ان المهاجر المنسلخ عن ثقافته بدافع غرائزي اناني سينشغل بالبحث عن الملذات الى الدرجة التي تمنعه من صناعة الكيان الناجح . وليثبت الفرد المنسلخ ولائه للغرب ومشاريعه التضخمية سيحاول إظهار العداء والبغض لامته وأبناء جلدته ومجمل الثقافات غير الغربية ، الامر الذي يجعله مندفعاً باستمرار نحو مواجهة الاخر عاطفياً ، وسلاحاً للتخريب الذهني يستثمره الغرب .
وإزاء هذا التيّار التغريبي الذي حاول الانسلاخ عن ثقافته الاسلامي نما تيّار اخر حاول التأسيس لثقافة إسلامية قائمة على مبدأ التفاهم بين النصوص والروايات الدينية وبين العلم الحديث ، كالقول بتنبأ القران والسنة بالكثير من العلوم الحديثة ، كما في رؤية الشيخ محمد عبده للميكروبات على انها نوع من الجن لما جاء من حديث عن كون بعض الأمراض من وخز الجن ، فيما رأى اخرون ان القران اكتشف الأقمار الصناعية والمذياع والتلفاز وأشعة X قبل العلم الحديث . الّا ان الدكتور ( مهدي گلشني ) يرى ان هذا المنهج التوفيقي يذهب بالميتافيزيقيا كلياً ويحيلها الى محدودية العالم الطبيعي ، وبالتالي هو يسلب ما عليه القران من حاكمية عقيدية .
يكمل الدكتور مهدي گلشني هذا الصورة الوصفية للواقع التاريخي قوله : ( مهّد هذا الاتجاه المتأثر بالفكر الغربي لظهور الماركسية في العالم الاسلامي ، حيث ان جذور هذين اللونين من التغريب تكمن في النزعة الحسية التي جاء بها العلم الحديث عبر تقنياته ومفاهيمه الى بلاد الاسلام . وفي الحقيقة فان العلم الذي وجد طريقه إلينا لم يقدم لنا معطياته العلمية دون مقابل ، وإنما جاء ايضاً بالفكر الوضعي الذي يجرد الغيب من قيمته ويصر على إهمال الدين . كما ان الدارسين - ورغم انهم لم يبدوا في الظاهر اي ميل نحو التحولات الفلسفية - كانوا في الواقع قد تأثروا بالاتجاه الوضعي في الفلسفة ، الذي كان يقصر القيمة العلمية على العلم التجربي وحسب ، وإذا أراد هؤلاء ان يتمسكوا بتصوراتهم الدينية فانهم كانوا يلجأون الى عمل توفيقي بينها وبين لوازم تلك الفلسفة الخطيرة ، وهو ما أدى بشكل أساسي الى تكوين ظاهرة غياب عنصر الاصالة في الأفكار ) . ومن ثم وصل الامر ببعض المفكرين الى القول بان المنهج الاسلامي هو ذاته المنهج التجربي ، وان سبب تخلف بلداننا هو اللهاث وراء الفلسفة .
وفي خضّم جهلها بما يجري من جدل في المؤسسات العلمية الغربية ذاتها المنتجة للأسس التجربية الحديثة باتت مؤسساتنا العلمية وجماعاتنا الثقافية تعيش الازدواجية في موقفها من الدين ، حيث يعمد البعض الى إقصائها تماماً عن الساحة العلمية ، والبعض الاخر ممن لازال يحرص على شيء من الدين الى التعامل مع المسارين الديني والعلمي بشكل منفصل ، متناسين او غافلين كليهما الحقيقة الميتافيزيقية الخلفية الحاكمة على كل نظرية علمية مسوقة إلينا ، وان العلم الطبيعي محدود بحدود مساحته الضيقة ، لذلك من الغريب ان اصبح العلم التجربي محدداً للدين وحاكماً عليه ، وهذا ما وقعت فيه شريحة واسعة من دعاة الثقافة ، وفي أحسن الأحوال يتم حصر الدين في دائرة السلوك الاخلاقي .
( لقد ادرك الكثير من علماء الغرب عجز العلم حين يتجرد من الدين عن تأمين سعادة البشرية ، ولاحظوا انه يخلق أزمات متعددة ، ولكن ما يؤسف له هو ان هذا التيار العالمي لم يصل بعد الى أوساطنا الثقافية والعلمية مع ان بعضها تتخذ من الغرب مناراً وقبلة ، ولذا فانه ورغم تراجع حدة المغالاة في العلم على الصعيد الغربي لازلنا نشاهد بعض مثقفينا وهم يدعون الى الالتحاق بركب العلم كسبيل وحيد للنهضة ويقدمون الوعود بفرص كبيرة يوفرها انفتاحنا التام على المعرفة الحديثة ) .
وعن تبعات العلمنة واقصاء الفكر الديني يتحدث الدكتور گلشني بصورة تعكس الالم من الاستسلام غير المبرر للمؤسسات العلمية الاسلامية امام الرؤية الغربية ، حيث بدأت ظاهرة المغالاة في العلم تنتشر في بلاد المسلمين الى الدرجة التي صار تدخّل العاملين في نطاق العلم الحديث في القضايا العقيدية يتمتع بمصداقية بين فئات عديدة ، على الرغم من عدم تخصصهم . وامام الهالة المصطنعة للعلوم الحديثة بات الكثيرون من مثقفي البلاد الاسلامية يخشون الإدلاء بآرائهم كيلا يتهموا بمناوئة العلم . وانتشرت روح المغالاة في الأوساط الطلابية ، وكذلك اصبح من السهل الاستحواذ على عقول الجماهير بلغة خطابية تداعب العلم . ويرى الدكتور گلشني ان بيان حقيقة العلم المادي ومحدوديته وضيق مساحته وعدم قدرته على حل سائر القضايا كفيل بمعالجة ظاهرة الغلو هذه .
ثم يعود گلشني لتناول مشكلة اخرى تسببت بتشويه الذهنية المعرفية للبلدان غير الغربية ، وذلك ان مؤسسات الترجمة تسعى حثيثاً لنشر الترجمات الخاصة بالافكار الإلحادية لكنها لا تساهم أبداً في نقل الأفكار المناوئة للإلحاد حتى وان صدرت من نفس العقل ، كما في ترجمتهم لافكار سارتر النافية لوجود الاله ، لكنّهم لم يترجموا رسائله المشيرة اليه . بل يرى ايضاً ان كل الجهود المنتقدة للفلسفة والمناصرة لمنهج حاكمية العلوم المادية إنما هي ايضاً فلسفة ، لذلك فحدود العلم في الواقع ترسمها الفلسفة .
كما ان أزمة الهوية أضحت معضلة كبيرة بعد ان سعى العديدون الى استنساخ التجربة الغربية بحذافيرها ، دون وعي بخصائص كل بيئة ومجتمع ، فرأوا ان نهضة المنطقة تكمن في الأخذ بالعلوم والفلسفات الغربية معاً ، رغم ان الواقع يكشف عن كون الفلسفة الجديدة في الغرب ليست انعكاسات للتطور العلمي بل هي ردة فعل اجتماعية تجاه مشاكل مجتمعية خاصة بهم ، فيما الصحيح هو الأخذ بالعلوم الحديثة النافعة لمجتمعاتنا مع الحفاظ على الهوية الثقافية الخاصة بِنَا . فالغرب ذاته بدأ يتحدث عن ان العلم التجربي يعرقل إيجاد صورة شاملة للكون والإنسان ، وهو ايضاً لا يمكنه توجيه نفسه لتحقيق السلام والاستقرار بل لابد من حاكمية خارج العلم توجه مساره .
يقول الدكتور گلشني : ( ان المجتمعات الاسلامية في وضعها الحالي بحاجة الى كفاءات تجمع في آن واحد بين امتلاكها إحاطة كافية بالرؤية والمنهج الإسلاميين ، وخبرة كاملة بالعلوم الحديثة ، وسيتمكن هذا النموذج من العلماء في نفس الوقت الذي يتبنى الاسلام من المساهمة الفاعلة في تحقيق التنمية العلمية والتقنية التي ننشدها ) .
من هنا يدعو الشيخ اليعقوبي فئة الشباب ان تكون هي الدرع الحصينة لامتها ، لا انها تستسلم للواقع المفروض والمنهك ، فنجده يخاطبهم : ( إن عليكم أن تبنوا أنفسكم ثم تنطلقوا الى مجتمعكم فتبذلون وسعكم في توعيته وإصلاحه والمطالبة بحقوقه وأن توفّروا له القيادة الصالحة التي تؤسس له الحياة الكريمة كما أرادها الله تعالى لعباده، ولا تتقاعسوا أو تشعروا بالإحباط أو تنزووا أو تعتزلوا مجتمعكم، فإنكم تضرّون بذلك أنفسكم، وتحرمون أُمتكم من هذه الطاقات الخلاّقة التي عندكم، فأنتم محركو الامة وباعثو الحياة فيها ) .
لا يريد الشيخ اليعقوبي للشاب المسلم ان يكون قشّة تطير بها الريح الغريبة ، بل وتداً يثبّت نفسه وغيره ، وما يكون هذا الّا بالتعلم والقراءة وتطوير الذات . فنراه يقول : ( وقد نصحت مراراً بأن تتخذوا دفتر ملاحظات تسجلون فيه هذه الأحاديث الأخلاقية لأهل البيت عليهم السلام وكلمات الحكماء التي تفهمون منها درساً مفيداً في حياتكم، وأن تتعبوا أنفسكم في مطالعة الكتب النافعة وتحصيل المعارف الدينية والأخلاقية والتوعوية، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: لستُ أُحِبُّ أن أرى الشاب منكم إلا غادياً في حالين: إما عالماً او متعلماً، فإن لم يفعل فرّط، فان فرّط ضيّع، وإن ضيّع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمدا صلى الله عليه واله بالحق ).
علي الابراهيمي
A1980a24@gmail.com
تعليقات