العراق مدرسة الولاية

عليّ حين اختار العراق معقلاً للرسالة المحمدية كان يعمل بما يمليه النور الإلهي وما تقتضيه السنن التاريخية , ولم تكن البلدان الأخرى لتدرك معنىً للولاية العلوية , سوى كرسي الخلافة الملكية المحضة . فالعراق كان وحده مؤهلاً لاستيعاب تلك الأفكار الكبرى من ( الولاية التكوينية ) و ( الامامة ) , و ( وحدة نسيج الكون ) , و ( انّ الاعمال تحدث في الكون حدثا ) , ومن ثمّ هم – العراقيين – وحدهم القادرون على تجلية مقام ( التضحية ) .
بذلت ايران الإسلامية جهوداً جبارة في خدمة العقيدة ونشر اسلام علي النقي , لكنها عاشت في حدود افترضها التاريخ والتكوين النفسي , حتى جاء اليوم الذي ازيح فيه طاغوت البعث عن صدر العراق , لتتفجر المدرسة العلوية علماً ونورا , ربما اقلقا العالم , لكنهما بداية الحقيقة والإصلاح .
( لقد طوّر السومريون خلال الألف الثالث قبل الميلاد افكاراً دينية ومفاهيم روحية تركت في العالم الحديث أثراً لا يمكن محوه ، وخاصة ما منها عن طريق الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام . فعلى المستوى العقلي استنبط المفكرون والحكماء السومريون ، كنتيجة لتأملاتهم في اصل وطبيعة الكون وطريقة عمله ، نظرية كونية واُخرى لاهوتية كانتا تنطويان على ايمان راسخ قوي بحيث أنهما اصبحتا العقيدة والمبدأ الاساسيين في اغلب أقطار الشرق الأدنى القديم ) .
( وكان رجال الدين السومريون يفترضون ان تشغيل وإدارة الكون ومراقبته يقوم بها مجمع الهة يتألف من مجموعة من الكائنات الحية تشبه الانسان شكلا ولكنها فوق البشر وخالدة ، وهي على الرغم  من انها لا ترى بعين الانسان الفاني ، كانت تسير الكون وتسيطر عليه وفقا لخطط وضعت بدقة وبقوانين معينة . ان عوالم السماء والأرض والبحر والهواء العظيمة والعناصر النجمية الكبرى ، والشمس والقمر والكواكب ، والقوى الجوية كالريح والعاصفة والزوبعة ، وأخيرا على الارض ، والذاتيات الحضارية كالمدينة والدولة  والسد و الخندق والحقل والمزرعة، وحتى الأدوات كالفأس وقالب الآجر والمحراث - كان كل واحد منها على ما يعتقد برعاية احد من تلك الكائنات المتخيلة على انها فوق البشر ، وكان هذا الكائن الراعى يوجه فعالياته وفقا للقواعد والانظمة الثابتة ) .
انّ هذه ترجمة مفردة ( الالهة ) من السومرية الى اللغات المعاصرة شأن شخصي ، وليست مرتبطة بحقيقة الوثائق الآثارية السومرية ، لأن هذه الوثائق تعاني اثار الاضطراب العالمي العام في ترجمة مختلف النصوص ، من حيث ان فهم النصوص الآثارية ظنِّي ، مبني على التصور الخاص بالباحث ، في إجادته لقراءة النص ، وفي المعيته التي تمكنه من جمع أطراف النص الواحد ، ومن ثم أطراف العقيدة المبثوثة في نصوص متفرقة زمانياً ومكانياً ، وفي خلفيته الثقافية التي تساعده في ادراك المعنى الحقيقي الذي اراده كاتب او مدون الوثيقة الآثارية . لذا نحن كعراقيين لنا قراءة اخرى ، اكثر تقدماً ومنطقية ، من القراءة الغربية للنص الآثاري .
وَمِمَّا يزيدنا قناعة بكون السومريين لم يعنوا مفهوم ( الالهة ) في النص الاصلي ما دونه البحّاثة ( كريمر ) في صفحة ١٥١ من كتابه : ( لقد عبر السومري عن كل كائن من هذه الكائنات غير المرئية والشبيهة بالانسان ، التي كانت في الوقت نفسه فوق البشر وخالدة ، بكلمة " دنجير =  dingir " التي نترجمها الى كلمة " اله " ) . وهي عبارة واضحة الارتباك ، حيث قال انه ( يترجمها ) لا انها الترجمة الناشئة عن حقيقة معرفية .
وبالتأكيد فإنّ هذه الترجمة غير منطقية اذا اخذنا عبارة آثارية مثل ( ثم صعد " انليل " الى السفينة ومسكني من يدي واركبني معه في السفينة ، وأركب معي ايضاً زوجي وجعلها تسجد بجانبي ، ثم وقف ما بيننا ولمس ناصيتينا وباركنا قائلاً : لم يكن " اوتو - نبشتم " قبل الان سوى بشر ، ولكن منذ الان سيكون " اوتو - نبشتم " وزوجه مثلنا نحن الآلهة ) ، حيث ان ( اوتو - نبشتم ) امّا يكون إلهاً ابتداءاً او لا يكون مطلقاً ، وبالتالي فترجمة هذه الكلمة - التي جعلت حضارة كاملة وثنية بسبب الخطأ في ترجمتها - لا يعدو معنى ( القداسة ) او ( النبوة ) او ( الولاية ) .
انّ هذه الرؤى العقائدية السومرية ليست الّا نسخة متقدمة في التاريخ لعقيدة ( الولاية التكوينية ) الاسلامية ، التي يؤمن بها ( الشيعة ) في العالم وفي العراق خاصة ، كما انّ هذه المخلوقات القائمة على كل مظهر مادي في الكون ليست سوى ( الملائكة ) في المعتقدات الخاصة بالديانات الإبراهيمية .
ومصطلح ( الولاية التكوينية ) مركّب من مفردتين : الولاية ، والتكوينية ، فإما مفردة التكوينية فهي مأخوذة ومشتقة من الكون . والكون معناه اللغوي هو الحدث . تقول : كوّنه فتكوّن ، اي : احدثه فحدث . وهذا يعني بأنّ مفردة ( التكوين ) مساوقة لمفردة ( الإحداث والإيجاد ) ، وهذا المعنى اللغوي هو مقصود القائلين بالولاية التكوينية اصطلاحاً : لانها تعني عندهم قدرة المعصوم على الإحداث في الكون  . انّ الولاية التكوينية بحسب المعنى اللغوي تعني انّ للمعصوم جهة قرب من القضايا والأمور الكونية ، بحيث تكون له السلطنة على إحداثها وتكوينها .
وما يؤكد قرائتنا هذه وجود ( نينخورساج = الام ) التي هي ( ننماخ = السيدة المجيدة ) , والتي يسميها السومريون ( ننتو = السيدة التي انجبت ) حيث والدة جميع ( الآلهة ) . وقطعا سيتبادر الى ذهن علماء وفلاسفة الامامية اليوم ( السيدة فاطمة الزهراء = سيدة نساء العالمين ) , والتي كانت مصدرا لانوار ( الائمة ) الموكلة اليهم ( الولاية التكوينية ) , ولعل ما جاء في ( الاسرار الفاطمية ) نقلاً عن ( البحار ٤٣ \ ١٠٥  ) مؤيداً لمذهبنا هذا : ( قال الصادق عليه السلام : وهي الصدّيقة الكبرى ، وعلى معرفتها دارت القرون الاولى ) , وبنفس المعنى بيت للشيخ المجتهد ( محمّد حسين الأصفهاني ) في قصيدته (الأنوار القدسيّة ) : ( وحــــبها مـــن الصفات العاليـة  *  عليــه دارت الـــــقرون الخاليـة ) .
ان السومريين افترضوا دائماً ان حضارتهم هبة الالهة , لذا لم تكن معارفهم ( الشيعية العالية فلسفيا ) سوى اخذ عن ذلك العالم الملكوتي : ( بعد أن انزلت ... الملكية من السماء ، وبعد ان انزل التاج والعرش الخاصان بالملكية من السماء ، اكمل رسوم العبادات والنواميس الإلهية ، وأسس المدن الخمس في مواضع طاهرة ، وسماها بأسمائها وخصصها كمراكز للطقوس والعبادات )  .
ان الارث الذي خلفه المجتمع الايماني الاول – الناتج عن تربية نوح النبي – والذي جعل المجتمع العراقي مجتمعا مدركا لابعاد التوحيد , رغم التطور الانحرافي الطبيعي , ان هذا الارث الفكري والرسالي خلق شخصية رسالية جديدة ذات همة عالية جدا , و تمتلك الارضية المناسبة عقليا لمعاني توحيدية ارقى , لذلك كانت النتيجة المتوقعة : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } ( الانعام ٧٥ ) . فاتم ابراهيم اشواطاً ادراكية لم تتسنَ لنوحٍ من قبل : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ } ( الأنبياء ٥١ ) .
وكذلك فتح الحق تعالى له ولذريته بصرا يرى من خلاله انوارا كانت ضرورية لما هو قادم من التخطيط والتطور الايماني : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } ( ص ٤٥ ) .
لذلك كانت الآلية الرسالية الابراهيمية تتناسب مع العقل الجدلي الناشئ نتيجة تداخل الخطوط الانحرافية مع الارث الايماني في المجتمع المحيط بابراهيم : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } ( الانعام ٨٣  ) ، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ( البقرة ٢٥٨ ) .
انقضى عهد السومريين ولكن حضارتهم لم يقضى عليها فقد ظلت سومر واكاد تخرجان صناعا، وشعراء ، وفنانين وحكماء ، ورجال دين ، وانتقلت حضارة المدن الجنوبية إلى الشمال على طول مجرى الفرات ودجلة حتى وصلت إلى بلاد بابل واشور ، وكانت هي التراث الأول لحضارة الجزيرة  .
واذا كان مجتمع بني إسرائيل اجلى المجتمعات المتفرعة عن المجتمع العراقي السامي الأول فهذا ما يمكننا من فهم قدرة العراقيين لاحقاً على الاستيعاب الكلي لمفهوم ( الوصاية ) الإسلامي , حين أوصى النبي محمد صلى الله عليه واله لعلي بن ابي طالب , ولم يسع شعباً ان يفهم قدسية هذه الكينونة الاجتماعية والعقدية كما وسع العراقيين . اذ ترك موسى وصيه في بني اسرائيل يوشع بن نون , يَشُوعُ بْنُ نُونٍ (عند المسيحيين) أو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ (عند المسلمين) ,الذي قادهم لدخول الارض المقدسة , بعد وفاة موسى تسلم يشوع زمام قيادة الأُمة، وأصبح قائداً لبني إسرائيل طوال الحقبة التي تم فيها الاستيلاء على معظم أرض كنعان.
ان مقتضى مفهوم ( الوصاية ) عند الله هو ذاته الذي يطرحه ( الشيعة الامامية ) اليوم , فالوصي عن احد الانبياء يجب ان يكون بالمستوى الديني والنفسي والجسدي اللائق , من هنا كان اختيار موسى ليوشع وصيا , تنفيذا لارادة ربانية , لا رغبة شخصية لموسى , ولم يترك الحق تعالى الامر للجمهور من بني اسرائيل , الذين اثبتوا انهم يحتاجون الى قيّم دائم على سلوكهم , لذلك خاطب الرب يوشع بما مضمونه : ( كما كنت مع موسى اكون معك. لا أهملك ولا اتركك. تشدد وتشجع. لانك انت تقسم لهذا الشعب الأرض التي حلفت لآبائهم ان اعطيهم. انما كن متشددا وتشجع جدا لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي امرك بها موسى عبدي. لا تمل عنها يمينا ولا شمالا لكي تفلح حيثما تذهب. لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك. بل تلهج فيه نهارا وليلا لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه. لانك حينئذ تصلح طريقك وحينئذ تفلح. أما أمرتك. تشدد وتشجّع. لا ترهب ولا ترتعب لان الرب الهك معك حيثما تذهب ) .
ان يوشع كان لموسى كالظل يخدمه ويتعلم منه , فاخذ عنه علوم الشريعة وخبرة القيادة في ذلك المعترك الصعب من تاريخ التوحيد . وربما هو من اشار اليه القرأن الكريم في قصة موسى مع الحوت , وكذلك ذكره الكتاب المقدس مرات عديدة , ومنها : ( خروج 17: 14 فقال الرب لموسى اكتب هذا تذكارا في الكتاب وضعه في مسامع يشوع ), ( عدد 27: 18 فقال الرب لموسى خذ يشوع بن نون رجلا فيه روح وضع يدك عليه ) , ( عدد 27: 22 ففعل موسى كما امره الرب. اخذ يشوع واوقفه قدام العازار الكاهن وقدام كل الجماعة ) , الخ من آيات عديدة ذكرت ( يوشع ) .
كان تولي سليمان الحكم في بني اسرائي امرا ضروريا ,لان مجتمعهم لم يعد تنفع فيه روحانية الانبياء كثيرا . ان القدرات الفيزيائية التي منحها الله لسليمان جعلته قادرا على معالجة الخلط بين الاكوان المتوازية للمخلوقات , وهو الخلط الذي اوجد الفوضى الوثنية والعملية في العالمين . كان على سليمان ان يتحرك في خطين متوازيين , الاول يقضي باغلاق المنافذ والابواب التي فتحها سحرة بني اسرائيل ومن قبلهم لعبور الشياطين , عبر استخدام وسائل الملك العلمي الذي لسليمان , والثاني يقضي بايجاد مجتمع بديل عن بني اسرائيل لحمل الراية الايمانية , وكان المجتمع الاقوى ترشيحا عند سليمان هو مجتمع ( سبأ ) من العرب القحطانيين , لاسباب يمكن اجمالها تحت عنوان ( الانضباط الأخلاقي ) , والدين هو الذي يتمم ( مكارم الاخلاق ) .
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) : قَالَ ( كَانَتْ عَصَا مُوسَى لآِدَمَ - عليه السلام - فَصَارَتْ إِلَى شُعَيْبٍ ثُمَّ صَارَتْ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَ إِنَّهَا لَعِنْدَنَا وَ إِنَّ عَهْدِي بِهَا آنِفاً وَ هِيَ خَضْرَاءُ كَهَيْئَتِهَا حِينَ انْتُزِعَتْ مِنْ شَجَرَتِهَا وَ إِنَّهَا لَتَنْطِقُ إِذَا اسْتُنْطِقَتْ أُعِدَّتْ لِقَائِمِنَا ( عليه السلام ) يَصْنَعُ بِهَا مَا كَانَ يَصْنَعُ مُوسَى وَ إِنَّهَا لَتَرُوعُ وَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ وَ تَصْنَعُ مَا تُؤْمَرُ بِهِ إِنَّهَا حَيْثُ أَقْبَلَتْ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ يُفْتَحُ لَهَا شُعْبَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي الْأَرْضِ وَ الْأُخْرَى فِي السَّقْفِ وَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعاً تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ بِلِسَانِهَا ) .
ثم جاء عيسى عليه السلام وأحوال بني إسرائيل في غاية من الفساد والإفساد. فعقائدهم قد طمست، وأخلاقهم قد رَذُلَتْ، وسيطرت عليهم المادية، حتى إنهم اتخذوا من المعبد سوقاً للصيارفة والمرابين، وملهىً لسباق الحمام. فاعلن المسيح عليه السلام ذلك ( الاعلان العالمي ) :(21: 43 لذلك اقول لكم ان ملكوت الله ينزع منكم و يعطى لامة تعمل اثماره ) ( انجيل متى ) ، نعم تم نزع ملكوت الله منهم , وتم نقله الى امة تعمل من اجل ثمرة التوحيد النقية الطيبة . ولم يكن تكن تلك الامة سوى الخليط الذي يمكن تسميته ( الامة الآرامية العراقية ) , التي تشكلت من المجتمعين السبأي والسرياني العراقيين , الذين كانا ولازالا مهد وعمق التشيع العالمي.
لقد قرر سليمان النبي انْ يختار المجتع السبأي وريثاً رسالياً لما له من عادات واخلاق إنسانية راقية , بغض النظر عن العقيدة المؤقتة التي يكون عليها هذا الشعب , فهو يرجع في نسبه الى ( هود ) النبي , كما انه يمتد من جنوب العراق حتى اليمن وبذلك هو يرث ايضاً العقل السومري , ويسيطر على جزء كبير من التجارة الدولية التي تعطيه فرص اكبر للحركة التبليغية , كما انه يتمتع بمساحة حريات كبيرة دلّ عليها النص القراني الذي تناول هذه القصة , بالإضافة الى تمتعهم ببأس شديد فردياً وجماعيا , الامر الذي يوفّر الحماية اللازمة لعقيدة التوحيد بعد انهيار المجتمع الإسرائيلي .
ويرى ( هومل ) ان كلمة ( sabum = sa – bu – um ) التي وردت عند ملوك اور في 2500 قبل الميلاد انما تعني ( saba ) الواردة في العهد القديم , واذا ما صح هذا صارت هذه النصوص السومرية اقدم نصوص تاريخية تصل الينا وفيها ذكر سبأ . ومن ( سبأ ) قبائل ( كندة – مذحج – انمار – الاشعريون – الازد – لخم – جذام -  عاملة – غسان – حِمْير ) , وفي هذه القبائل ومنها وقبلها قبائل جمة , كالانصار من الاوس والخزرج وكالنخع وهمدان . ولم تكن مواطن هؤلاء السبئيين سوى في جنوب العراق التاريخي حيث قبر جدهم ( هود ) عليه السلام , كما ساثبت ذلك في بحث منفصل باذن الله .
انّ الفكرة التي استند اليها النساطرة - حسب فهمي - في تناولهم لطبيعة السيد المسيح هي ذات الفكرة التي يعتمدها ( الشيعة الإمامية ) حول طبيعة الأئمة من أهل البيت ، حيث يَرَوْن انهم في تجسّدهم كانوا بشراً كما كان غيرهم ، لكنّهم خارج الجسد مصدراً للفيض الالهي ، بنحو الواسطة . وبذلك فعيسى والأئمة مخلوقون لله ، لكنّهم في منزلة اعلى وأعظم من أنْ تكون لبشر غيرهم ، وذلك ما يشبه قولنا بنحو ما عن وظيفة الملائكة .
حين بلغت البشرية مستوى مناسباً من النضج صار اطلاعها على عقائد التوحيد الكبرى امراً ضرورياً , فكان الإسلام تمام العقائد الابراهيمية وخاتمها . وقد ظهر في ذات المنطقة الآرامية التي باستطاعتها استيعاب مبادئه , ومن ثم نشرها بين الأمم المختلفة , كما فعلت من قبل مع الديانات التوحيدية الأسبق من الإسلام زمناً , اذ بلغ دعاة الآراميين بلاد الصين والهند , وكان آخر ما اوصلوه الى هناك المذهب النسطوري .
بعث الله تعالى ( محمد بن عبد الله ) الهاشمي القرشي العدناني نبياً مرسلاً , عند بيته الحرام , وآتاه من آياته العقلية الكبرى , فسقاه من رحيق المعرفة الإلهية , واجتباه من خلقه مخلَصاً وحبيباً , ليتم نعمته على هذه الامة المرحومة , ويعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون . ثم ان هذه الامة بدورها يكون واجبها ان تتأسى بخاتم الأنبياء وتكون شاهدة على الأمم , وكان فرز الأوراق حينئذ امراً ضرورياً , ببيان العقائد الحقة وسرد الحوادث والاخبار الصحيحة , لدفع ادعاءات ديانات الزور . اذ ان الاله الخالق واحد لا شريك له , وان ما يعبد الناس من اصنام والهة ليست سوى حالة وثنية , وان الأديان التوحيدية والابراهيمية حالة واحدة , فيما ان الاديان الابراهيمية التي على ساحة الاحداث اليوم لم تعد نقية وقابلة للاستمرار بوضع يكفل هداية البشرية لا سيما الرسمية منها , ومع ذلك فليس اولوا تلك الأديان متساوين في عقائدهم ونواياهم وطقوسهم , بل لازالت هناك مذاهب موحّدة مؤمنة لا سيما النصارى , فيما أصبحت قصة موسى مع فرعون محوراً قصصياً مهماً في القران الكريم لما لها من اثر في الماضي والحاضر والمستقبل , وللاسرار التي تركها الفراعنة في عناوين الحاضر البشري كما بيّناه في كتاب ( صراع الحضارتين ) , حيث انهم يقودون جميع عوالم الظلام الأرضية المعاصرة والسالفة , كما اثبت القران الكريم ان هناك عوالماً أخرى , تقطنها كائنات عاقلة , اسماها عموماً ( الجن ) او ( الجآن ) , استطاع سليمان النبي اخضاعها للإرادة البشرية المستمدة من الإرادة الإلهية , اما الملائكة فهو المصطلح القرآني للقوانين التي اقرّ الإسلام حاكميتها في اصقاع الكون وعوالم الخليقة , وابان القران للمسلمين نشأة الكون وتاريخ العوالم الأولى والكثير من اسرار وخصائص الوجود , فيما كان هناك صراع الانسان النقي بقيادة الأنبياء والاولياء مع عالم الشياطين والجآن , كما كان هناك العلم الذي جعله الإسلام عبادة , لانّ به يُعرف الله من خلال آياته , وهو كذلك ما به يرقى الانسان في عالم الدنيا ويسخّر محيطه الطبيعي , لكن بشرط ان يهذبه بالصلاح والمعرفة الربانية , وكذلك لفت ذهن الانسان الى ان هناك من الخلق المخفي ما لا يعلمه الانسان الى ساعة نزول القران سواءً بتكرار ( سيعلمون ) او بالاخبار المباشر , وقد أنشأ منظومة طقسية نفسية وروحية فردية وجماعية للسير نحو الله , كما أسس لمنظومة أخلاقية جديدة ومتممة للمنظومة الأخلاقية العربية الآرامية التي تمثّلت باخلاق رسول الله ذاته , كما بيّن الغاية الكبرى من الخلق , مثلما أعاد صياغة المعتقدات السومرية في الولاية التكوينية وبعثها من جديد , ليتوج معارف هذه الأجيال بعقيدة ( الامامة ) : (  وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة 124 ) .

علي الابراهيمي
A1980a24@gmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموسوعة المعلوماتية عن مدينة الناصرية .. مهد الحضارة ومنطلق الابداع

اعلُ هُبَل

السوط البكتيري وقَبْليات العلم الإلحادية