مدخل في فلسفة التاريخ ( الهكسوس )
عرفهم المصريون باسم ( منيوساتي ) اي رعاة اسيا ، وكذلك باسم ( شاسو ) اي البدو ، ويبدو انّ الاسمين كانا يخضعان للطريقة التي يريدون من خلالها توصيفهم . فيما سمَّاهم اليونانيون ( الهكسوس ) اي الملوك الرعاة ، وبين الاسمين يبدو الفرق واضحا ، حيث تخضع التسميات للاسقاطات النفسية .
انّ الهكسوس - الذين اطلق عليهم العرب اسم العمالقة - كانوا خليطاً من العموريين ( الأموريين ) والكنعانيين ، وكانوا على الأرجح تحالفاً عسكرياً ، تربط بين شعبيه الأواصر العراقية الأصل ، لكنهما كانا ربما يختلفان في العقيدة ، ففي حين كان العموريون موحدين كان الكنعانيون - حسب بعض المصادر - يتخذون آلهة .
وكما هو واضح من آثارهم كان العموريون يعبدون ( ايل ) ، الذي فهمه الباحثون الغربيون - كعادة فهمهم القائم على فكرة مسبقة - على انه اله ( صنمي ) ، فيما هو لم يكن سوى لفظ قديم للاله الواحد ( الله ) . ولا نحتاج في إثبات ذلك الى جهد وعناء كثير ، حيث لازالت الأسماء الواردة في النصوص الإبراهيمية تحمل - الحاقاً - هذه المفردة ، في اسماء مثل ( اسرائيل ) و( ميكائيل ) و( عزرائيل ) و ( إسرافيل ) و ( جبرائيل ) ، الذين هم من خلق الله الصالحين من بشر وملائكة ، والمقدّسين في العقيدة الإبراهيمية التوحيدية . وقد ورد في اسماء ملوك الهكسوس العموريين الملك ( يعقوب ايل ) ، وكما هو واضح فقد جمع بين نتيجتين يفيدان كدلائل لما نريد ، حيث الاسم ( يعقوب ) الذي هو من اسماء العراقيين القدماء في الفترة الإبراهيمية ، وكذلك لفظ ( ايل ) الدالّ على الاله الواحد . وقد ورد أيضاً في كتاب مفاتيح الجنان الذي ينقل الادعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ما نصّه في دعاء السمات ( وبمجدك الذي تجلّيتَ به لموسى كليمك عليه السلام في طور سيناء ، ولابراهيم عليه السلام خليلك من قبل في مسجد الخيف ، ولاسحاق صفيّك عليه السلام في بئر شيع ، وليعقوب نبيّك عليه السلام في بيت ايل ) . وقد ورد أيضاً في حضارة مدينة ( سمأل ) كاله للآراميين أيضاً ، مما يدلّ على انتشار هذه العقيدة الإبراهيمية بين العراقيين بقوة ، وهو ما سيكون الطرف الاخر في صراع الحضارتين ، ومنه نعرف سبب الهستيريا التي اصابت الجيش الفرعوني وجعلته يلاحق الهكسوس حتى حدود العراق ، رغم انّ هذا الجيش لم يسبق له فعل ذلك .
والعموريون هم الذين اسسوا حضارات ( ماري ) و ( عمورو ) في سوريا ، وهم ذاتهم من أسس الامبراطورية البابلية القديمة . وقد وقعت دويلاتهم السابقة في سوريا تحت حكم الملك سرجون الاكدي ، الا انهم أقاموا الحضارة البابلية بعد انهيار السلالة الاكدية ، وهذا ما يجعلنا نرفض توصيف بعض المؤرخين القدماء وبعض الباحثين المعاصرين لحضارة الهكسوس بأنها بدوية ، فهم قد أقاموا عدة حضارات قبل قيام دولتهم في مصر ، كما انهم من ادخل الصناعة التعدينية والفنون والآداب والعربة والفنون الحربية الى مصر ، حيث هال المصريين رؤية تلك العربات الحربية التي لم يشاهدوها سابقا ، وبسبب العربات هذه ذاتها تمكّن المصريون لاحقاً من انشاء اول امبراطورية لهم .
وقد انتقل الهكسوس الى مصر في بداية الامر على شكل موجات مهاجرة بصورة طبيعية ، ثمّ استغلوا الصراع بين مصر السفلى ( الدلتا ) وبين مصر العليا ( الصعيد ) فاحتلوا الدلتا وأقاموا هناك دولتهم . الا انّ الفراعنة ظلوا يحكمون الصعيد وعاصمته طيبة ، ومن هناك بدأوا حربهم ضد الهكسوس ، لأسباب دينية كما يبدو من قساوة الصراع ، وكذلك من خلال ما تركه المصريون وشركائهم اليونانيون من توصيف سيّء للهكسوس .وقد رأى بعض الباحثين انّ هجرة النبي التوحيدي الكبير ( ابراهيم ) الى مصر كانت خلال حكم الاسرة الفرعونية الثانية عشر ، لتقاربها مع زمن حكم الهكسوس لمصر ، حيث اعتقد الباحثون انها حكمت في حدود ١٨٩٧ الى ١٨٤٠ ، فيما حكم الهكسوس منذ ١٧٨٥ الى ١٥٨٠ . لكننا نرفض ذلك مطلقاً ، حيث هو مخالف للمنطق التاريخي للحدث ، كما انه لا يقوم على أسس اثرية دقيقة . من هنا ارى انّ هجرة ابراهيم كانت في ظلّ اول ملوك الهكسوس ، وهي فترة متقاربة جدا مع التاريخ الذي يراه معظم الباحثين . كما انّ ظهور أبناء يعقوب في مصر ، واعزازهم ، ومن ثمّ استعبادهم بعد انهيار الهكسوس من قبل الاسرة الفرعونية الثامنة عشر يكشف عن منطقية رأينا . ويمكننا ملاحظة انّ مؤرخين اخرين لهم تواريخ غير التي رآها غيرهم ، فمثلا ( ماسبيرو ) في كتابه ( تاريخ المشرق ) يرى انّ احتلال الهكسوس لمصر كان في حدود ٢٣٠٠ ق م ، فيما خروجهم كان بين ١٧٠٠ الى ١٦٥٠ ، ويرى انهم حكموا اكثر من خمسة قرون .
حكم الهكسوس مصر قروناً عديدة ، وخلالها استقبلوا موجات من المهاجرين الساميين العراقيين والسوريين ، ومن أولئك المهاجرين كان بنو اسرائيل احفاد نبي الله ابراهيم ، حيث أكرمهم الهكسوس - لاعتبارات دينية واجتماعية - ومنحوهم بعض الاراضي الخصبة . وقد وصل ( يوسف ) حفيد ابراهيم الى منصب نائب الملك الهكسوسي .
ومن لطيف التعبير القراني لتمييز هذه الفترة من تاريخ مصر عن الفترة الفرعونية السابقة والفترة الفرعونية اللاحقة انه لم يذكر لفظ ( الفرعون ) كلقب للحكام ، بل استخدم لفظ ( الملك ) ، بما يتناسب والطريقة العراقية في الحكم . حيث اراد ان يثبت حقيقة الاختلاف بين الحضارتين ، { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }( يوسف ٤٣ ) ، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }( يوسف ٥٠ ) ، {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } ( يوسف ٧٢ ) .وصل يوسف الى مصر عبر احدى القوافل ليُباع هناك , فاشتراه عزيز مصر , وحدث له مع امرأة العزيز ما حدث , وشهد شاهد من اهلها بان يوسف مفترى عليه , لكنهم رأوا ان يسجنوه , فاظهر صنوف العفة والصبر , وكان سببا لصلاح السجناء الذين خالطوه عندما سجنه العزيز . وكان ان رأى الحاكم رؤيا افزعته , لم يفسرها بصورة مقنعة الّا يوسف , فارسل الحاكم من يأتيه بيوسف , وهو لم يزل في السجن , فاصرّ يوسف على التحقيق لاظهار برائته , وفعلا اثبت الله تعالى لهم براءة يوسف من كل التهم , فاثار ذلك اعجاب الحاكم واختص يوسفَ لنفسه ، { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } ( يوسف ٥٤ ) . ان المجتمع الفرعوني السابق على الهكسوس – أي من المصريين – كان يؤمن بزواج المحارم , لذلك هو لم يكن ليتأثر بعفة يوسف , وكذلك كان المجتمع المصري الفرعوني يعتمد كليا على نبوءات السحرة عبر شريعة ( الكابالا ) , فهو لن يقتنع بتأويلات يوسف , وهو ايضا مجتمع هرمي عائلي لا يسمح بدخول عناصر غريبة الى السلطة , ولم يكن يوسف حينها سيستطيع ان يكون عزيز مصر . لكن الله جل وعلا مهّد لبني اسرائيل دخول مصر عبر الغزو ( الهكسوسي ) . فقد آمن احد ملوكهم السابقين بابراهيم , وأهداه الصالحة ) هاجر ) ، لتكون امّاً لابنه النبي ( اسماعيل ) ، ومن ثم آمن احد آخر ملوكهم بيوسف ويعقوب . وقد كان ملوك الهكسوس بين الملكين في صراع طويل مع كهنة الديانة الفرعونية المصرية ( الكابالا ) , ومع معتنقيها من عامة الشعب المصري , وكذلك كانوا في حرب دائمة مع السلالات الفرعونية في الجنوب . وقد تحالف الهكسوس مع ملوك ( النوبة ) , ضد الفراعنة .وقد اعتقد المؤرخ المصري ( مانيتون ) ان الانبياء ابراهيم ويعقوب ويوسف هم من نفس عنصر الهكسوس , وهو الصحيح لانهم جميعا عراقيون ساميون في الاصل .
ثمّ بعد ذلك انهار الهكسوس امام الفرعون المصري ( احمس ) مؤسس السلالة الثامنة عشر ، والذي طاردهم حتى بلاد الشام ، حيث قضى عليهم في معركة ( مجدّو ) الفاصلة في حدود عام ١٤٧٩ ق م .
وبدأ الفراعنة حينها مرحلة استبداد واستعباد للعنصر السامي ، الذي كان ممثّلاً ببني اسرائيل في الغالب ، حيث هم ذرية الأنبياء ، والتي تكون مناسبة جداً للمرحلة الاولى في إبادة الأديان التوحيدية الإبراهيمية المخالفة للديانة المشفّرة الباطنية الفرعونية . فصاروا يذبّحون ابنائهم ويستحيون نسائهم ، واستخدموهم في الاعمال الشاقّة ، واتخذوا منهم لاعمال السخرة ونظام العبودية ، في مرحلة ثانية لكسر النفس التوحيدية السامية ، ومن ثمّ إبهارها بالمادية الفرعونية .لذلك استخدم القران الكريم في هذه المرحلة - التي ترافق قصة موسى النبي - لفظ ( الفرعون ) للتعبير عن حكّام مصر ، (ُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٠٣] ، ) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) ( يونس (١٠)| الآية: ٧٥( ، [ (فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [الجزء: ١١ | يونس (١٠)| الآية: ٨٣] .
ورغم انّ الاسرة الطيبية الفرعونية التي قاتلت الهكسوس هي السابعة عشر الا انّ الاسرة التي تولت الحكم تماما بعد خروج الهكسوس هي الثامنة عشر التي أسسها ) تحوتمس ) . و المثير ان يختفي البناء الهرمي في هذه المرحلة ، وهو عصر الاسرة الثامنة عشر ، كما انّ احد ملوك هذه الاسرة ترك عبادة الفراعنة وتوَّجه لدين توحيدي هجين ، والالتزام باله واحد ، هو اله الشمس ( اتون ) ، وأطلق على نفسه لقب ( اخناتون ) . وهذا يكشف عن مدى الأثر العقائدي والفكري الذي تركه الساميون الهكسوس ومن رافقهم من الأنبياء والمفكرين ، رغم خروجهم مهزومين عسكريا .
لكن عاد كهنة الديانة المصرية القديمة للثورة على ديانة اخناتون ، وحرّكوا الجمهور والقادة ، لتعود الديانة الامونية المصرية القديمة رغما على خلفاء اخناتون . الا انّ مصر لم تستقر فكريا او عقائديا بعد ذلك ، رغم قيام اول امبراطورية في تاريخ مصر .الا انّ المصريين من الفراعنة في الاسرة الثامنة عشر الذين أبادوا كل الذي وجدوا من اثر للهكسوس أبقوا على المعابد الوثنية لبعض الساميين في منف وفي حيّ ( الحيثيين ) ، بل انهم اعتبروا الآلهة الوثنية الكنعانية ( عشتارت ) ابنة للاله ( بتاح ) ، فيما قرروا انّ ) عنات ) من بنات الاله الكبير لديهم ( رع ) . وذلك يكشف بوضوح عن حقيقة الصراع الذي دار بين الفراعنة وبين الهكسوس ، حيث هو صراع ديني ، بين عقيدة التوحيد والعقيدة الوثنية الشيطانية ، الى جانب كونه صراعاً حضاريا ، خصوصاً انّ المصريين أبقوا على كل المعابد الوثنية في سوريا بعد احتلالها حين طاردوا الهكسوس ، بل انهم قد احترموا تلك الآلهة وقدّسوها كجزء من منظومة الآلهة المصرية ! . ومن الغريب ان نرى ملكا منتصراً منتقماً هو ( رمسيس الثاني ) يسمّي ابنته باسم آلهة العدو ! ، حيث اطلق عليه ( ابنة عنات ) .
ويبدو واضحاً من الشغف الذي عاشه الامير ( خع ام واست ) ابن الفرعون الشهير ( رعمسيس الثاني ) اهم ملوك الاسرة الثامنة عشر التي طاردت الهكسوس وارادت ابادتهم انّ البعد الديني لدى هذه الاسرة الفرعونية المنتصرة كان مركزياً وحاكماً على ما سواه . فهذا الامير الذي اشتهر بعلمه الغزير بالديانة المصرية القديمة قد أعاد ترميم اغلب اثار الاجداد من الفراعنة القدماء . فيما كان الأخ الذي خلف ( خع ام واست ) في ولاية العهد وهو الأمير ) ومرنبتاح ) قد وصل الى مرتبة ( الكاهن الأعظم ) للاله ( بتاح ) ، وكان يقوم على طقوس الاله العجل ( أبيس ) .
تعليقات