مقدمة في الديانات القديمة المنشور الأول

 

 



 

 

 

الحضارة هي مجموعة منظومات مادية ومعنوية ، يشيّدها الانسان . وقد تكون هذه الحضارة صالحة او طالحة ، وقد تكون خليطا من الاثنين . وطالما ارتبطت الحضارات الانسانية بالميتافيزيقيا او الماورائيات ، وهذا الارتباط تنشأ عنه المنظومة الدينية . ورغم انّ الأديان تختلف في اعتقاداتها وسلوكها العام لكنّها تشترك في الارتباط بالإله الخالق المطلق . وقد ظهرت - لأسباب مختلفة - تيّارات ترفض عالم الميتافيزيقيا جملة وتفصيلا ، اُصطلح على تسمية عالمها الجامع بالإلحاد .

لكن المسلك الثالث للحضارات البشرية - الذي قلّما يُلتفت اليه - هو ( الميتافيزيقيا العكسية ) ، او الدين الذي يؤمن بوجود الاله المخالف لما عليه صفات اله الأديان العامة للبشرية ، حيث يسلك ويعتقد برؤية اخرى . انّ الميتافيزيقيا العكسية تقرأ التاريخ وقصة الإيمان كما تقرأها البشرية بنحو ما ، لكنّها تفسّر الأشخاص والاحداث بنحو معاكس تماما ، او بما يناسب رؤى منظّريها الكبار . لذلك كله كانت ترى الخطّ الديني العام للبشرية عدوًّا وخصماً كافراً ومهرطقاً ، وربما تجد انّ الخط الالحادي المادي اقرب اليها من خط ديني يسفّه بل ويُجرِّم بعض شخوصها وقواعدها .

من هنا انطلقت في التاريخ البشري حضارتان متخاصمتان ، كلاهما تؤمنان بالميتافيزيقيا ، لكنّهما متعاكستان في الرؤى . ومن ذات المنطلق تواجهت الحضارتان ، لكن كان لكلّ واحدة منهما قواعد وآليات مسموحة ومحرّمة ، العامة كانت حذرة في أدواتها وصارمة في حريّة الاعتداء حدّ المنع ، والعكسية كانت تؤمن باستخدام مختلف الوسائل الممنوعة والمسموحة لحماية منجزاتها الحضارية الخاصة بها ، وكانت ترى انها هي من يجب ان تقود ركب الحضارة البشرية العامة ، لا سيما وهي تؤمن وتعيش ضمن طبقية واستعلاء يشكّل جزءاً من بنيويتها الدينية ، لذلك كانت ترى انّ أنبياء الخط العام المختلطين بالناس والذين يعملون أعمالا يدوية تتناسب وعامة الناس ليسوا الا جنس من الرعاة لا يناسبون مقام التحدث باسم الآلهة . وكان امر الاستعانة بالحضارة الإلحادية مقبولاً وطبيعياً لدى قادة الميتافيزيقيا العكسية ، كمرحلة افراغية أولى ، تستلب الدين العام من الانسان ، ليتم لاحقاً ملأ الفراغ الروحي بمعتقدات الحضارة الميتافيزيقية العكسية .

من أشهر تلك الحضارات الميتافيزيقية العكسية هي الحضارة الفرعونية ، وما تلاها كان صدى لعقائدها تقريبا ، وربما تكون هي ذاتها صدى لحضارات اسبق ، يمكن تسميتها جميعا بالحضارات القابيلية .

هيرودوت كتب (( انّ المصريين اكثر تقوى من سائر البشر ... ويهتمّون كل الاهتمام بالشعائر المقدّسة ... )) ، ومع ذلك لم تكن عقائدهم هي ذاتها في كل زمان ومكان ، بل تبدّلت في احيان كثيرة ، ولا أقلّ من التغيّر الذي تكشفه جهة توجيه الميّت عند دفنه التي تكشفها مقابرهم خلال عصور متعددة ، حيث كانت اجساد بعض الموتى المصريين باتجاه الغرب ، والبعض الاخر بالاتجاه الشمالي او الشمالي الشرقي ، مما يعني التبدّل في قناعاتهم في موضوع بأهمية مصائر الموتى الذي يشغل الانسان دائما .  لكن يمكن لذلك ان يكون تنوّعاً مناطقياً في العقائد ايضا ، وليس زمانياً ربّما ، حيث اختلفت اتجاهات الدفن باختلاف المقابر .

لقد تم العثور على مجموعة من الرسوم والنقوش التي تعود لعصور ما قبل التاريخ المصرية - السابقة على عصر الأسرات الأوّل - توّثق مجموعة من المعارك والحوادث التي تشارك فيها كائنات مثل العقرب وطائر أبيس والصقر وابن آوى ، وهي التي نقل التاريخ المكتوب تقديسها وتأليهها في مجمل الحضارة المصرية اللاحقة . كما تضمّنت تلك المكتشفات وجوداً للإله ( مين ) .

كما حملت المنقوشات التي يُرجّح انها تنقل احداث توحيد مصر العليا ومصر السفلى على يد الملك ( مينا ) رسومات لابن آوى والصقور ، وفيها ايضا الاله ( خنسو ) ، احد أعمدة ثالوث طيبة . ومن غير المفهوم استمرار واصرار المصريين على توثيق وجود الآلهة - الحيوانية الوجوه في الغالب رغم بشرية بعضها - ضمن معاركهم وحوادثهم الكبرى ، خصوصاً تلك المرتبطة بوجود الملك .

كانت الكثير من هذه الآلهة تفقد حجمها بمرور الزمن امام اله صاعد جديد ، او ربما يتم دمج الهين في اله واحد ، وأحياناً تكون هناك الآلهة الكبرى الحاكمة على مجموعة الأقاليم المصرية فيما تنتشر أيضاً مجاميع من الآلهة الصغيرة المساعدة ، والملفت انها تعمل بانسيابية مثيرة ضمن المنظومة الكبرى للآلهة .

ربّما كان العجل الذي حمل اسم ( أبيس ) او ( مرور ) و ( العجل الأبيض ) و( العجل الأسود العظيم ) من اهم الآلهة الواضحة التقديس في عصور الدولة المصرية القديمة ، وكانت له مجموعة من الكهنة والخدم ، فيما ارتبطت الآلهة ( حتحور ) بصورة البقرة ، رغم بشريتها .

فيما كان الكبش من الصور الملفتة للآلهة الاولى للمصريين ، وقد مُثّلت من خلاله الآلهة ( آمون رع ) و ( حرشف ) و ( خنوم ) . انّ العامل المشترك في الآلهة ( الكبش ) هو ارتباطها بعملية الخلق ، حيث حملت بعضها لقب ( خالق البشر ) وبعضها ( ابو الآلهة ) .

كما كانت المسّلات - وهي أعمدة طويلة نسبيا - تحمل قدسية خاصة لدى قدامى المصريين ، استمرت لاحقا ، وقد وجدت مجموعة كبيرة منها مثل أعمدة ( ايونو ) و ( بنبن ) و ( جد ) . ورغم انّ الباحثين الآثاريين عاجزون عن تفسير أصل قداستها الا انّ المصريين ربطوها بشكل غامض بالآلهة ذاتها ، كما في عمود مدينة القوصية الذي ارتبط بالآلهة ( حتحور ) . والذي أراه مناسباً انّ هذه الأعمدة لم تكن هي بذاتها مقدسة ، بل كانت عبارة عن وسائل مفترضة للتواصل مع الآلهة ، لذلك أخذت قدسيتها من قدسية علم الآلهة ذاته .

والصولجانات اليدوية كانت مشابهة لقدسيتها - كواسطة لعبور قوى الآلهة - بحال المسلّات ، فكان هناك مثلاً الصولجان ( سخم ) ، الذي يعني ( القوة ) ، وكان يرمز للسلطة وقوة الآلهة . وقد كان للآلهة ذاتها صولجانات ، لا نعرف مغزى واضح لحملها من قبلها مع كونها آلهة لا تحتاج في فعلها للصولجان ، لكن يبدو انّ هناك تفسيراً مصرياً لم يصلنا حول حقيقة استخدامها في العالمين البشري والخارق . وقد ارتبط احد هذه الصولجانات بالإله الكبير ( اوزيريس ) ، مما يعني عناية خاصة لهذا الصولجان .

لكن الامر الأكثر اثارة فهو ورود مصطلح ( دواور ) الذي ترجمه بعض الغربيين بمعنى ( المنتمي العظيم للفجر ) ، لكنّه اليوم يُترجم - بكلّ بساطة ووضوح - الى كلمة ( متنوّر ) ، ومنه طائفة ( المتنوّرين ) المنتشرة في عالمنا . وقد ارتبط المصطلح باحتفالات مقدّسة غامضة ، كما في عصر الملك ( جت ) ، كان المتنوّر فيها يضع ( لحية ) صناعية .

 

 

 

 

 

·       بمناسبة زيارة بابا الكاثوليكية فرانسيس الى العراق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموسوعة المعلوماتية عن مدينة الناصرية .. مهد الحضارة ومنطلق الابداع

اعلُ هُبَل

السوط البكتيري وقَبْليات العلم الإلحادية