الإمام مالك والسيد السيستاني.. عودة التاريخ






الإمام مالك والسيد السيستاني.. عودة التاريخ

الكتابة عن مرجعية السيد السيستاني شكلت هاجسا دائما لي منذ النهضة الصدرية في التسعينات من القرن المنصرم ، لكني كنت احسب على الدوام ان المصلحة في ترك الامر وعدم تناول هذه المرجعية مباشرة ، حفظا لوحدة المذهب واحتراما لمشاعر اخواني في الدين والوطن. لكن يبدو اني كنت مخطئا بنحو ما ، لان بعض القضايا اذا لم تتم معالجتها ابتداء يستفحل دائها نهاية الامر.
بذل شيعة العراق دماء زاكية وانتهكت حرماتهم وابيدت خيراتهم لاجل انهم رفضوا الخلود الى الارض والرضا بالاحكام الوضعية السلطانية واصروا ان يحكّموا شرع الله في كل شأنهم. ولان القوة الشيطانية كانت الى جانب اعدائهم غالبا ولانهم كانوا اشدّ من ان يستسلموا فقد ظلّ الصراع مستمرا لقرون دفاعا عن معتقداتهم.
ولان الله جلّ شأنه لا يذر عبيده فقد هيّأ لشيعة العراق اليوم فرصة تحكيم شرعه ، بنحو من الاختيار وعدم الفرض وبما لا يضر الآخرين الذين يشاركونهم الوطن .
لقد كان لقانوني الاحوال الشخصية الجعفرية والقضاء الجعفري ان يعيدا بعض الحقوق المستلبة لشيعة العراق – وهم الاغلبية في وطن تفرعنت فيه الاقلية لعقود بحراب اجنبية – توافقا مع دستور الوطن الذي يقضي باحترام المعتقدات الشخصية.
ولن اعيد الحديث في اهمية القانونين وضرورتهما الشرعية والوطنية والاجتماعية ، او اسهب في بيان دورهما في رفع حاجز الظلامة الذي يمنع شيعة العراق من الثقة بشركاء الوطن ، او كيف يمكن للقانونين ان يعملا على طمأنة اكثر من 70 % من سكان العراق ويساعدا في طي صفحات الظلم وانتهاك الحقوق وفرض المعتقدات.
انا هنا اتناول ظلامة اخرى من ظلامات العراق الكبرى – سيما في العقود الاخيرة – والتي تمثلت في مطرقة السلطة وسندان العمامة الجامدة. احال مجلس الوزراء – وباصرار من رئيسه – مسودة القانونين الى غياهب الدورة القادمة ، وهو امر – على ما فيه من سوء – يمكن معالجته بالانتظار ، وشيعة العراق تقوم عقيدتهم على الانتظار.
لكن هاجس الخوف الاكبر ان مجلس الستة الذي استنّ بسنة عمر اشترط موافقة المرجعية العليا – والمتمثلة عندهم بالسيد السيستاني – لعرض القانونين مستقبلا للتصويت ، وهي – لعمري – قسمة ضيزى.
فالرجل لم يستقبل مسودتهما حين طُلب منه ذلك بداعي عدم استقباله لرجال السياسة – ولا اعرف من الذي من واجبه ان يستقبلهم ليقوّمهم – ، فيما سعى كاتب القانونين الى وكيليه في كربلاء ” الصافي وعبد المهدي ” باحثا عن رضاهما وعلّهما يرقّان ويعطفان على المتيّم ، لكن زبدة ما خرج به منهما انهما يفضلان احتكار المشروع برمته تحت عباءة مولاهما.
السيد السيستاني لم يعودنا ان تكون له قرارات في القضايا العامة بنحو المفصلية ، كما انه يسير عمليا بسياسة الانعزال التام ، ولولا انه يعيش فوق ارض علوية شعبها متحرك لا سكون له لما رأينا له قيد انملة من الرأي في شؤون الناس ، لكنه يقع تحت طائلة الضغط الشعبي والاحراج الجماهيري ، الناشئ عن حركة المرجعيات العراقية وفاعليتها ، مما يثير جماهير مرجعية السيد السيستاني ويدفعهم لتحريكه راغما.
ويدرك بعض المراقبين والمحققين كيف ان السيد السيستاني كان صورة ظاهرية لحركة رجال دين آخرين في المواجهة التي كانت مع مشاريع بريمر ، حيث كانت الوفود تضغط على مكتب السيد السيستاني واضعة بين يديه مشاريعا جاهزة وخططا مقترحة لاطفاء النيران التي يوقدها بريمر وفريقه ، مما اضطره الى شيء من الحركة ، لكن بعد ازالة اسماء اصحاب تلك المشاريع.
ان المرجعيات جميعها في النجف وكربلاء وسائر بلدان الشيعة دعمت القانونين ، لما لهما من اهمية وضرورة شرعية . وقد ابدى المراجع الكرام اراءهم الفقهية حول الفقرات التي جاءت في القانونين ، وهو حقّ لهم ، الا مرجعيتان ، احدهما رفضت قراءة مسودة القانونين اساسا بداعي ” ان كاتبهما ليس معرّفا عندها! ” ، وهذا ما تم نقله الي عن مرجعية السيد كاظم الحائري ، ومرجعية السيد السيستاني التي لم تطلع على مسودة القانونين بداعي ” عدم استقبال السياسيين! ” .
ان مجلس الوزراء ليس فيه كيانا شيعيا واحدا ينتمي لمرجعية السيد السيستاني فقها او فكرا – واقول فكرا مجازا لان السيد السيستاني قضية الفكر بالنسبة له ” سالبة بانتفاء الموضوع ” ، وهي تذكرني بذلك الموقف الذي طلبت فيه احدى القنوات التلفازية من بعض مزوديها بالاقراص الليزرية عند سقوط النظام العفلقي ان يكونوا اكثر عدالة ويطبعوا لها بعض محاضرات او كلمات للسيد السيستاني اسوة بغيره من رجال الدين العراقيين ، فاجابهم صاحب المكتب بانهم اذا وجدوا للسيد السيستاني محاضرة واحدة بصوته فهو مستعد لشرائها وطبعها وتوزيعها على نفقته الخاصة ، فبُهت القوم ورجعوا عابسين – وبالتالي فاشتراط هذا المجلس رأي السيد السيستاني ليس له علاقة بمعتقداتهم الشرعية ، بل ارى ان الامر قد دُبّر بليل لوأد القانونين.
اعترض الكثيرون قبل سنين على الممارسات العملية التي يمارسها اتباع السيد مقتدى الصدر من خلال انتمائهم للميليشيات التي شكّلها تحت عنوان ” جيش المهدي ” ، وكان اكثر المعترضين هم المنتمون لمرجعية السيد السيستاني فقها ، وكذلك ذات الكيانات السياسية الشيعية التي تحضر جلسات مجلس الوزراء اليوم ، ولان السيد مقتدى الصدر شعر لاحقا بحراجة بعض الممارسات التي يأتيها اتباعه ولانه فهم ” السيد السيستاني ” ايضا فقد وجد حلا يضمن له امرين : رفع الحرج عنه وبقاء مؤسسة جيش المهدي ، حيث احال قرار حلّ جيش المهدي الى رأي السيد السيستاني نفسه ، وحتى اليوم لم يصدر هذا الرأي ولن يصدر كما ارى شخصيا.
وحين صرّحت بعض المرجعيات العراقية الحركية منتقدة الحكومات السيئة التي تعاقبت في مجلس الوزراء بقولها ” ان شرعية الانتخاب تحتاج الى شرعية الانجاز ” كانت الاحزاب والشخصيات السلطوية تعرف الرد الاعلامي التسويقي المناسب دائما ، حيث ما عليهم الا زيارة السيد السيستاني ثم عمل مؤتمر صحفي عند رأس ” الدربونة ” ، وحينها كان هؤلاء السياسيون يردون من رأس ” دربونة ” الانقاذ والتسويق تلك بانهم ” يستمدون شرعيتهم من المرجعيات الكبرى او العليا في النجف الاشرف ” ليواجهوا التصريحات السابقة التي تنتقد ادائهم.
وهنا يجب ان نناقش في نقطة نظام مهمة تضمنها قرار التأجيل من مجلس الوزراء ، وجرت اعلاميا ومن ثم شعبيا ، الا وهي قضية ” المرجع الاعلى ” ، فهل لهذا المصطلح من ارض شرعية يقف عليها ، او ان له واقعا عمليا ? . ان هذا المصطلح خدعة سياسية في كبراه وصغراه ، حيث لا يوجد في المعتقدات الشيعية منصب رسمي لقيادة الشيعة تحت راية الدين الا ” الامامة المعصومة ” و ” كيان الولي الفقيه ” ، والاول محصور بالائمة من آل محمد عليهم السلام ، اما الثاني فهو وليد نظرية ” ولاية الفقيه ” الحديثة نسبيا والتي لا يعتقد بها السيد السيستاني.
نعم ان مرجعية السيد السيستاني – نتيجة وجودها في مجتمع متحرك لا جامد – تعيش حالة التناقض بين مفاهيمها الكلاسيكية التي تؤمن بها وبين سلوكها العملي ، كما هو واضح مثلا في مسألة ” ثبوت الهلال ” ، حيث السيد السيستاني لا يرى ” حاكمية الفقيه ” في ثبوت الهلال ، الا انه يتصدى عمليا ووكلائه لمسألة الهلال ، مما ينتج اضطرابا وارباكا اجتماعيا ، حيث يظنّ مقلدوه – جهلا – ان رأيه ملزم لهم ! ، فيما لم يكلف وكلائه انفسهم بيان المسألة لجمهورهم ، تمسكا بزمام السلطة الدينية.
هذا كبرويا ، اما صغرويا فالسيد السيستاني لا يملك انتاجا فقهيا او فكريا يستطيع به مسايرة – فضلا عن ممايزة – مرجعيات السابقين او المعاصرين ، بل حتى ليس انتاجا يكفي لتواجده على رفوف المكتبات. وليس هناك احصائية من شأنها حساب عدد مقلدي المراجع لمعرفة حجم جماهيرهم كميا – بغض النظر عن النوعية – . ولا يوجد اي كيان او مؤسسة شيعية من شأنها تحديد المرجع الاعلى للطائفة. بل ان القول بمرجع اعلى يستلزم بالضرورة القول بنظرية الولي الفقيه.
لكن القوم يحلبون اليوم شطر المصطلحات السياسية التي اوجدوها مثل ” المراجع الاربعة ” و ” المرجع الاعلى ” . والتي ارادوا من خلالها وأد مشاريع المرجعيات الحركية الرسالية. لكنهم وقعوا بما وقع فيه خصوم اهل البيت في عودة للتاريخ مؤسفة.
فبعد تسونامي تشويه المفاهيم والمصطلحات وخلط الاوراق على العوام بات ممكنا تسيير الشارع بما تشتهي السياسة. ولان الحاكم الانتهازي الظالم لا دين له فقد سار ساسة الشيعة بما سارت عليه مؤسسات سلطة الخلافتين الاموية والعباسية ، حين حصروا المذاهب بالاربعة والافتاء في المدينة لمالك. والتزاما بمحور موضوعي فان اشتراط مؤسسة السلطة العراقية رأي السيد السيستاني لاحالة مسودة القانونين لمجلس النواب اعاد الى ذاكرتي صورة من التأريخ الغاشم والظالم لآل محمد وشيعتهم ، والاكثر ظلما بحق اصحاب الراية المحمدية العاملة ، اذ نشرت السلطات في ذلك العصر قرارا ملزما مفاده ” لا يُفتى وفي المدينة مالك ” ، لا حبّا بمالك وفقهه ، بل بغضا لائمة آل محمد وحركيتهم . والّا باي وجه يكون لمالك وحده حق النقض وفي الامة غيره من فطاحل العلماء وجهابذة الافتاء والرواية! . لكن اهل التحقيق والوعي يدركون الغاية ويعرفون الهدف ، وهو للاسف يسير في مصلحة ابليس.
وقد يرى البعض هذا القول مني قسوة او ان فيه اساءة لمقام المرجعية ، فاجيبهم انا ابن تاريخ لا يعرف الحق بالرجال بل يعرف الرجال بالحق ، واعرف الحق تعرف اهله. فدماء اجدادي على هذه الارض سالت نصرة لمشروع آل محمد منذ جدي الاشتر حتى الساعة ، ولا اعتقد ان للسيد السيستاني القدرة على احياء العظام وهي رميم .
والقضية لاتتعلق – تاريخيا – بمسائل فقهية محفوظة ، بل بالقدرة والكفاءة لقيادة سفينة الشيعة في كل عصر ، والا لاكتفيت بجدتي التي كانت رغم امّيتها موسوعة فقهية علمتني شرعة ال محمد بمختلف اقوال الفقهاء السابقين ، الا ان جدتي تميزت عن المرجعيات الكلاسيكية الخاملة انها كلما تذكرت انها حفيدة ذلك الذي ” كان لعلي كما كان علي لرسول الله ” تشعر بعظم المسؤولية تجاه مشروع آل محمد فتأخذ على عاتقها تربية اجيال من الناس ، انعم الله عليّ بان كنتُ منهم.
والدليل ان مرجعية السيد السيستاني كانت ملزمة – بحضورها الرسمي والاعلامي – ان تكون السبّاقة في طرح القانونين الجعفريين وغيرهما من سنين مضت ، لكنها لم تكن تشعر بالمسؤولية التي كانت تعيشها جدتي رحمها الله .
ولعل بعض المتفائلين يقول ان الاستعجال والرجل لم يبيّن رأيه بعد امر منكر ، فاقول لم يعوّدنا الرجل ان يقول شيئا او ان يواكب حركتنا كعراقيين ، لذلك فليعذر استعجالي لاني اكاد افقد الامل ان يحيا من جديد.
ولعلّ من يرجعون الى السيد السيستاني من الشيعة في العالم الذين لهم قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ينتظرون من مرجعيته رأيا فيها ان يتخذوا ما سيؤول اليه هذان القانونان من مصير عبرة وبابا للفهم .
ان تخوفي هذا له من الشواهد خلال السنين الماضية ما يبرره ، فانا ممن أشعرته مرجعية السيد السيستاني بخيبة الامل مرتين ، وفي مرحلتين ، الاولى عند خذلانهم للصدر الشهيد في التسعينات ، والثانية بعد سقوط الصنم الطاغوتي ، حينها اثبتوا انهم لا يعيشون تقية مبررة ، بل يعيشون انعزالا نفسيا ، ربما يحتاجون في علاجه الى مختص في علم النفس.
ان موقف من تساقطت عنهم اوراق التوت لتكشف عوراتهم من ساسة الشيعة من القانونين امر يمكن ان تتجاوزه الانفس ، لكن الامر سيختلف كثيرا اذاما خذل السيد السيستاني هذا الحق الشيعي ، عندها لن نجد في القوم ذلك ” الاشتر ” الذي سينزله من على منبر الكوفة ، بل سنجد ” شبث بن ربعي ” مبررا قتل القانونين ، بذنب كاتبهما ولا ذنب له. ان افراط ” ابي موسى الاشعري ” في الانعزال والحيادية يريب من لا يرتاب. لكن اصرار بعض اهل الكوفة على ولايته سذاجة قادت الى قتل خير البرية ” علي ” .


علي الابراهيمي
Ali.H.Ibrahimi

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الموسوعة المعلوماتية عن مدينة الناصرية .. مهد الحضارة ومنطلق الابداع

اعلُ هُبَل

السوط البكتيري وقَبْليات العلم الإلحادية