العلمانية المسكينة في العالم العربي
العلمانية المسكينة في
العالم العربي
علي الابراهيمي
A1980a24@gmail.com
) بعبع
العلمانية ) ذلك الشيطان الكافر , المتمرد على الله , على الاقل هذا ما ينعته به
الكثير من مناوئيه الاسلاميون . و ( العلمانية ) ايضا هي ذلك الفكر المتحضر ,
الثائر على الموروث الديني المتخلف , الذي جائنا من عصور ما قبل الصناعة , وهذا
الوصف هو خلاصة لرأي بعض انصار العلمانية العرب المتحمسين .
لا شك ان كلا الوصفين
السابقين ساذجين , وظالميَن , وهما وصفان متوقعان من ماكنة الخدر والخمر العربية .
لكن ليس ذلك ما يهمني من الموضوع , بل اريد ان اتناول ( العلمانية ) اليوم كسلاح
في لعبة الامم على الارض العربية .
العلمانية نتجت في اوربا
كعلاج لمشكلة عانت منها اوربا كثيرا , تلخصت في سيطرة الكنيسة - بكل تخلفها
وتزمتها ودنيويتها - على مقدرات وقرارات ومصير الشعوب الاوربية . ولانها كانت
متمسكة - وبصورة متعمدة ربما - بالموروث العلمي والاجتماعي والفكري السيء فانها
تسببت بخسارة الاوربيين للكثير من السنين والجهود والاموال والارواح , وجعلتهم
يعيشون قرونا من التخلف والانحطاط والجوع . حتى تبلورت - مع الزمن - مجموعة من
ردات الفعل - المدروسة والعفوية والمؤامراتية - لتطرح الفكر الاوربي الجديد ,
والذي قرر فصل الكنيسة عن الحياة العامة , وحصرها بالجانب العبادي , فانتج مجموعة
من النظم التي حددت اطر العلاقة بين الكنيسة والدولة . ولان المفكرين الاوربيين
كانوا يعون حاجة الانسان للبعد الروحي فانهم لم يلغوا الكنيسة كما فعل غيرهم , بل
ابقوا على وجودها الروحي , كمساهم في معادلة التوازن التربوي , التي يحتاجها
المجتمع الاوربي .
وحينما تواصل بعض العرب
بالمجتمع الاوربي الحديث وانبهروا بما لديه , حاولوا استنساخ جميع التجربة
الاوربية دون وعي ودراسة , وكان في مقدمة ذلك فصل المؤسسة الدينية الاسلامية عن
الدولة . وهذا فرحت له المؤسسة العسكرية العربية الدنيوية غالبا , فنتج التحالف
العلماني العربي , الذي اندمج بعالم المنظمات السرية - الاوربي المنشأ والهدف -
لاحقا .
ولان التقدم العلمي
والصناعي الاوربي احتكاري وماص للثروات - سيما في الحقبة الاستعمارية - فقد حصل
العلمانيون العرب على ( الفكر العلماني ) , ولم يحظوا بما ارادوا من التقدم التقني
الذي احرزته العلمانية في اوربا . وهي قسمة ضيزى , لا يخرج بامثالها الا اجهزة
الاستنساخ الموجودة بدلا من العقل في رؤوس بعض العرب .
العلمانية اذا اريد منها حسن
التنظيم والتوزيع الامثل للكفاءات وادارة المشاريع والمؤسسات من قبل ذوي التخصص ,
بمعنى انها مشتقة من كلمة العلم , وتهدف الى رقي المجتمعات ,فهي امر مرحب به كثيرا
. لكنها اذا كانت بقصد زعزعة عقائد الناس , عبر تصوير معاداة الدين الاسلامي للعلم
, او تسببه بالتخلف , فهي امر مرفوض ومغلوط كليا .
فلم يشهد العالم الاسلامي
ظروف مشابهة للظروف التي شهدتها اوربا , ولم تكن المؤسسة الدينية الاسلامية يوما
شبيهة بالكنيسة . وحين كان المجتمع الاوربي يريد التقدم , وكانت الكنيسة تحاول
ايقافه , كانت البلاد الاسلامية على العكس تماما , ففي العراق كانت الحوزة العلمية
تشهد وجود ابرز واعظم النوابغ من رجالات الفكر والهندسة والطب , وفي مصر كانت
المؤسسة الدينية هي من تبنت ربط المجتمع المصري بعجلة التقدم العالمية , وحاولت
التواصل مع العالم الخارجي , في حين كان المجتمع العربي عموما منشغلا بالصراعات
الداخلية والخارجية .
كذلك كانت الحوزة العلمية
- وهي المؤسسة الدينية العراقية - السبب الاساسي في ايجاد الدولة العراقية الحديثة
, والعامل الاول في تثبيت حقوق المواطنة , واستنقاذ حقوق الجماهير , التي كادت
تضيع بسبب اخطاء ورؤى - وربما عمالة - الجيل الاول من العلمانيين العرب . وكذلك
انشئت المؤسسة الدينية العراقية مجموعة ضخمة من المؤسسات التعليمية والاكاديمية
الاهلية , والتي تدرج فيها الكثير من رجالات العلم والمعرفة والصناعة والفكر
العراقيين والعرب , حتى تمت ابادتها على ايدي منتحلي الفكر العلماني في العراق .
اما في مصر فكانت المؤسسة
الدينية العامل الحاسم في مواجهة الاستعمار الماص للثروات , والدافعة الرئيسية في
انشاء المعاهد العلمية الحديثة في مصر . الا انها فشلت في مواجهة خداع المد
العلماني العسكري المشترك , وتركت الساحة لهم لفترة طويلة .
وفي لبنان استطاعت المؤسسة
الدينية ان تحافظ على هوية البلاد , التي اصبحت شبه مفقودة بسبب التغرب , فيما
نجحت لاحقا في اعادة الاطراف المتناحرة الى طاولة الحوار , لتعيد بناء الدولة
اللبنانية الحديثة . ثم كانت الجدار الصلب امام اطماع وسعار الجيش الصهيوني الدموي
, وفي نفس الوقت الذي تنشر فيه العلم نراها تقاتل , وبعد القتال تبني .
وفي فلسطين كانت المؤسسات
الاسلامية هي الانشط في محاولة توفير فرص التعليم الجامعي لابناء الشعب الفلسطيني
المظلوم , الى جانب نشاطها في الدفاع عن الارض الفلسطينية .
والخلاصة ان المؤسسة
الاسلامية لا تشابه الكنيسة من قريب او بعيد , وبالتالي محاولة علمنة المجتمع
العربي بنحو مضادة الدين تعني ان القائمين عليها اما اصحاب مشاريع تغريبية لالغاء
الهوية او انهم يعانون جهلا مركبا .
وهذا لا يعني ان المتأثرين
بالفكر العلماني هم سيئون دائما واصحاب مشاريع تخريبية كافرة , بل الواقع يشهد ان
الكثير منهم ساهموا في التقدم العلمي والتقني للمجتمعات العربية , سيما في توفير
المناهج العلمية للجامعات . وكانت لهم ابحاث ومشاريع علمية كبيرة , رفدت المؤسسة
الانتاجية العربية بمادة ضخمة من النظريات والتجارب والتطبيقات .
لكن الاندفاع والحماس لبعض
العلمانيين تجاه مضادة الدين الاسلامي واعتباره عدوا , دفع الكثير من الشباب
العاطفي للانتماء للجهة المفرطة في الاتجاه المعاكس , وهي التيارات السلفية
المتزمتة اللاعقلانية . وذلك كردة فعل تجاه التيارات العلمانية اللادينية , والتي
تريد نقل تجارب الحضارات والشعوب الاخرى للمكان والزمان الخاطئين , وهذا واضح من
السرد اعلاه .
كما ان وجود المجاميع
الاسلامية المتزمتة او السلفية الجامدة , او الجماعات الارهابية , والتي تريد
اسلاما ينتشر بالسيف , كل ذلك وفر غطاءا كبيرا لانصاف المتعلمين من الشباب المسلم
انتسابا والتائه واقعا ليرتمي في احضان الجماعات اللادينية , والتي تبدي مظهرا
خارجيا براقا , يدعي العلمية , وتبطن جوفا فارغا .
ويقوم على المعادلتين
السلبيتين اعلاه الحاجات الغرائزية والشهوية الدنيوية , وضرورة سد الجوع المادي
والنفسي والجنسي والاجتماعي , اللواتي تتبنى تحقيقهم المناهج العلمانية (
اللادينية ) والجماعات والمشاريع الدينية ( اللاعلمية ) النقديتان .
كل ما سردناه اعلاه يفتح
الباب للاعتقاد بان الغرب اذا اراد تمرير مشاريعه الماصة للثروات والمخدرة للشعوب
والماحقة للهوية فانه سوف يختار التعامل مع الجهات العلمانية في العالم العربي ,
لكن الحقيقة غير ذلك تماما ! .
الغرب اليوم يتبنى مشاريعا
عملاقة , تغير الجوهر وليس الشكل , تحصد شعوبا وتمحق امما , فاختار للعبته السلاح
المناسب للمكان والزمان .
المكان : البلاد العربية .
الزمان : عصر النهضة الدينية .
والخيار : التيارات والجماعات
الاسلاموية الشهوية والنفعية البراغماتية .
جهة الاسناد : الجماعات
والتيارات الاسلاموية البدوية الخاوية السلفية المتجمدة على فهم السلف وتدمير
الخلف .
العدو : الدكتاتورية .
البعبع وجهة الخطر:
العلمانية .
العلمانيون يوفرون اليوم
غطاءا مناسبا جدا لتمرير المشاريع الغربية التخريبية , لانهم صاروا يُستخدمون
لتخويف الشعوب بهم وبافكارهم , حيث يتم تصويرهم على انهم كفار عملاء , رغم ان
الكثير الكثير من الاسلامويين هم العملاء فعلا .
تم استخدام هذه اللغة
المخادعة في العراق , ويتم استخدامها اليوم في مصر , وفي ليبيا , وهكذا . وما يسهل
هذه الخدعة هو وجود نوع من العلمانيين اللادينين الذين يعتقدون انهم يعيشون ايام
الحقبة الشيوعية .
العلمانيون لو حاولوا فهم
المشاريع التي تقوم عليها المؤسسات الدينية الاسلامية العقلانية لوجدوا انهم ربما
يلتقون معها في الكثير من الرؤى , وانا اقصد هنا العلمانيين ( العلميين ) لا (
العولميين ) .
واجزم ان احد العلمانيين
لو تبنى مشروعا بنائيا انتاجيا او صناعيا او توعويا سيجد المؤسسة الدينية داعمة
لمشروعه قبل كل المؤسسات الاخرى . على شرط ان يكون المشروع منتجا نافعا , وان تكون
المؤسسة الدينية عقلانية واعية , لا تلك التي تلبس قميص الدين لتتاجر به وتخدع
الناس . واقصد بالدعم هنا ( المعنوي ) لا ( المادي ) , لان المؤسسة الدينية ليست
مؤسسة مالية او حكومية غالبا .
وانا هنا لا اتحدث عن
المؤسسات الدينية جميعا , فبعض تلك المؤسسات - وفي كل المذاهب وعلى اعلى المستويات
- لا تتعدى اصنام قريش التي هدمها النبي . وبعض المؤسسات الدينية لا تعرف اين تقع
محافظات كاملة من البلاد التي تعيش فيها , وهناك مؤسسات دينية مشغولة بلعق ارجل
الحكام والملوك عن متابعة التطور والتقدم العلمي , كما ان هناك مؤسسات دينية تعيش
في غيبوبة ذات فرق في توقيت الزمن بنحو قرنين من الزمان .
وعليه تحمل العلمانيون
العرب وزر الكثير من مشاريع التخريب الفكري والحضاري التي تقودها وتقوم عليها
مؤسسات وجماعات اسلاموية , لانها منحتها الفرصة للبقاء والاستمرار .
كما اننا صرنا نخسر جهود
الطرفين : المؤسسة الاسلامية العقلانية الواعية , والتي لها دور مهم في اعادة
تنظيم المجتمع العربي وتطوير الفكر , وانتاج العقلية النشطة . والمؤسسة العلمية
للمنظمات العلمانية , والتي تحمل في جعبتها الكثير من المشاريع العلمية النافعة
للوزاقع العملي العربي .
فيما يستفيد المشروع
السياسي الغربي التخريبي , ويلعق فتات نجاحه الاسلامويون العرب , على خلاف
الاسلاميين المخلصين , او العلمانيين
العاملين .
تعليقات